رد على مداخلة الأستاذ كريم سمعون
تحية وتقدير للسيدات والسادة جميعا الذين مروا بهذه الروضة الفيحاء والواحة الغناء
..
أشكر الزملاء الذين أدلوا بقراءاتهم وأقدّر عمق رؤئيتهم ووعيهم
كان الشاعر اللبناني بشارة الخوري ( الأخطل الصغير ) يكتب أغلب شعره عن الفقراء ومن شردهم الحرب علما أنه كان ينتمي لأسرة أرستقراطية إجتماعيا وماديا وفكريا ولو طرحنا تساؤلا عن مدى صدق إحساسه بين ما هو عليه أو لو أنه يعيش حالة الفقر والمأساة فعلاوواقعا
وكثيرا ما نرى ونسمع عن أدباء يكتبون ببراعة أدب السجون ولم يسجنوا بحياتهم .
وهنا أرى أن الشاعر والإديب بإمكانه أن يتقمص الحالة ويحياها بحقيقتها وحقيقيتها مضافا إليها النبل والإحساس بالآخر
فمن صام يوما أو شهر بإمكانه أن يعرف ويعيش معاناة الجائع وكذلك من عشق وعاش مرارة الفراق وآلام البعد بإمكانه أن يعيش الحالة بكل صدق .
قد يعارضني أحد بهذا ولكن هذا رأي قابل للتصديق والتكذيب
والشاعر معروف أنه صورة البيئة ومرآة الواقع
من هنا نجد براعة شاعرنا القدير ذو الإحساس المرهف والحواس المتقدة محمد سمير كيف تقمّص الحالة بآلامها وإنفعالاتها وصورها لنا شعرا كأنه عاشها هو حقا
تارة يعاتبها بألم وسخط ولوم
و أَتيتِ عِنْدَ الأَربعينَ
لكي تبوحي – يا جبانةُ – بعدما
ظهرتْ علينا كلُّ أعراضِ الكُهولَةِ و الفُتورْ
كُنّا كِلانا حالِمَينِ
نغوصُ في عُمْرِ الزُّهورْ
فَلِمَ انْسَحَبْتِ و أنتِ- قَسْراً – تحبِسينَ
مشاعَر الصَّبِّ الَّتي تعلو على موجِ البحُورْ ؟
أَلِكَثْرَةِ الفَتَياتِ حَوليْ
أَمْ لأَنَّكِ تَحْسَبينَ
قَساوَتي
فاقَتْ جَلاميدَ الصُّخورْ ؟
أَمْ أَنَّها العاداتُ أوْ عُقَدُ اللِّسانِ
أَوِ افْتقادُكِ – يا جبانةُ – يومَها
للبَوحِ ... و القَلْبِ الجَسورْ ؟
لو بُحْتِ بِالْعَيْنَيْنِ
يا شرقَّيةَ العينينِ و الخدَّينِ و الشَّفَتَيْنِ
ما انتحرتْ جميعُ المفرداتْ
و لأصبحتْ في أَرْضِكِ العَذراءِ تَنْمو كالبُذورْ
لِمَ لَمْ تناديني وَلَوْ بإِشارَةٍ
مِنْ لَحْظِ هاتيكَ العُيونْ ؟
لِمَ لَمْ تبوحي حينَ كُنْتُ أَزورُكُمْ ؟
ما كان يَفْصِلَ بيننا عندَ المَبيتِ سوى الجِدارِ
و أَنتِ طولَ الليل من نارِ الهوى تتقلَّبينْ
و سريرُكِ المِسْكينُ يشكو
و الشُّفوفُ
و مِشْبَكُ الشَّعرِ المُذَهَّبُ
و المِخَدَّةُ ... و الدِّثارْ
لو كنتُ أّعْلَمُ كنتُ قَدْ
أَحدثْتُ خَرقاً بالأَظافِرِ في الجِدارْ
وتارة يؤنبها نادما متحسرا على مافات من سنين دون جدوى
ومن ذات المقطع يتضح لنا أن بطل القصة كان معجبا بالفتاة فلو اعترفت هي لم يكن ثمّة ما يمنع ولكن ما جعله يبعدها عن ساحة غرامه أو يفكر بها كحبيبة كان الواقع الإجتماعي وعلاقته بأخيها كصديق
ومجرد التوكيد على قبوله لو أنها صرحت دليلا كافيا على حبه لها أو أنها حازت مؤهلات الحبيبة وهنا ليس حبا من طرف واحد أو حالة مرضية كما تفضلت الأخت كوكب البدري .
والبطل لم يطلب منها أن تصرح بحبها جهرا أو تخطبه هي بل قال لو أومأت أو أشارت أو لمحّت أو قالت وما تبقى كان سيكون عليه هو .
(
أثمن ما ذهبت إليه أستاذ كريم ،فليس من المفروض أن يعيش الكاتب كل ما يكتب عنه ، وهنا يكمن الإبداع في تقمص الشخوص عند إبداع النص ،وهذا يتطلب الكثير من المطالعة وتوسيع قاعدة البيانات الثقافية عند الكاتب.
)
نعود للشاعر ، الشاعر وليس بطل القصة فلقد عاد لذاته وفاض غزلا رائعا ببعض جمل القصيدة علما أنها لم تخرج مطلقا عن إطار القصة وكانت موظفة توظيفا مدهشا في إيصال فكرة القصة للقارئ
كُنّا كِلانا حالِمَينِ
نغوصُ في عُمْرِ الزُّهورْ
فَلِمَ انْسَحَبْتِ و أنتِ- قَسْراً – تحبِسينَ
مشاعَر الصَّبِّ الَّتي تعلو على موجِ البحُورْ ؟
*****
لو بُحْتِ بِالْعَيْنَيْنِ
يا شرقَّيةَ العينينِ و الخدَّينِ و الشَّفَتَيْنِ
ما انتحرتْ جميعُ المفرداتْ
و لأصبحتْ في أَرْضِكِ العَذراءِ تَنْمو كالبُذورْ
لِمَ لَمْ تناديني وَلَوْ بإِشارَةٍ
مِنْ لَحْظِ هاتيكَ العُيونْ ؟
ونعود لفكرة أن الحب لم يكن من طرف واحد بل كان إعجاب بطل القصة واضحا ولكن ما يمنعه عن البوح أو الإعلان هو صداقته لشقيق الفتاة وجميعنا يعلم العادات الشرقية وكيف تمنع الرجل من البوح فيما لو كان رادع ما أخلاقيا أو إجتماعيا يردع أو يمنع هذا البوح
لو كنتُ أّعْلَمُ كنتُ قَدْ
أَحدثْتُ خَرقاً بالأَظافِرِ في الجِدارْ
لِمَ لَمْ تبوحي حينَ كنتِ تُقَدِّمينْ
فنجانَ قَهْوَتي المُمَيَّزَ في الصباحْ
وَلَطالَما أَحببتُهُ مِنْ صُنْعِ كَفَّيْكِ اللَّتيْنِ
تلاقتا من دونِ قَصدٍ
مَعْ أَنامِلِيَ الجَريئَةِ مَرَّةً
حيثُ اضْطَربْتِ كأَنَّ مَسَّاً قَدْ أَصابَكِ
(
بالنسبة لبطل القصة فلم يكن يحلم يوماً أن تتطلع تلك المرأة إليه كحبيب ،ولذلك فقد نزل عليه الإعتراف نزول الصاعقة ، وهنا أثمن غوصك في نفسية الكاتب وبطل القصة واستنتاجك أن صداقة أخيها كانت من الأسباب التي منعته من التفكير فيها)
حالة هذه القصيدة مختلفة إلى حدٍّ ما عن أية قصيدة أخرى لكونها كانت حالة متبناة أو حالة تقمّص لأحاسيس ومشاعر شخص آخر وبالرغم من ذلك إلا أنها جائت تحمل صدق العاطفة والمشاعر بكل حرف من حروفها وتتأجج هذه العاطفة بالحالة الإنفعالية للشاعر وعتابه الغاضب
يصل لدرجة التعنيف والتوبيخ والتأنيب ( تكرار كلمة يا جبانة ، يا شهيدَةَ نَفْسِها
بَلْ يا ضَحِيَّةَ جُبْنِها ....أَيْ أَنَّنا صِرنا كِلانا ، في عِدادِ الخاسِرينْ ) وهذا يدل على شدّة الندم على ما فات وهذا دليل الحب ..
وبذات الوقت القصيدة تصور لنا أحداث قصة دارت أحداثها من أكثر من ربع قرن والوقت الحالي حين اكتشف البطل حبها الصامت والمدفون في أضلعها منذ ربع قرن .
فلقد ووفق الشاعر لدرجة كبيرة في إيصال قصّة القصيدة من خلال قصيدته ولم تنخفض وتيرتها الشعرية ولا لغتها الإنسابية في أي مقطع من مقاطع القصيدة بل كانت منسجمة ومتناغمة .
عنوان النص ذكيا وموفقا ( المرأة الصامتة .. أو الحبيبة الصامتة )
خاتمة النص مدهشة وموفقة ..
ولن أخوض في بنية الشكل الفني الذي كفى ووفى فيه أخي عواد والأستاذ محمد سمير برده على المداخلة أيضا أغنى الفكرة ..
ولكن فيما ذهب إليه الأخ الحبيب الأستاذ عواد الشقاقي بخصوص المثل كمن يصّيف في أريحا أقول : صيغة المضارع هنا لم تضعف التشبيه فنحن نقول مثلا ( كنت أسير بلا جدوى كمن يسير في أحلامه ) وأعتقد أن الشاعر كان موفقا بهذا المثل الشعبي تحديدا لتلاقي ..حرارة الصيف وحرارة أريحا مع حرارة العشق والحب التي يحياها العاشقين ..
تحية كبيرة لشاعرنا القدير محمد سمير ولجميع من مرّ قبلي بهذا النص الرائع ولجميع من سيمرّ بعدي والشكر الكبير لكل من ساهم بإغناء هذا المتصفح بحرفه الكريم
حبا كبيرا للجميع آملا أن أكون قد ووفقت بإضافة أفكار جديدة لما تفضل به الزملاء الكرام قبلي ..
(
لا يسعني هنا إلا أن أحييك أستاذ كريم على هذه المداخلة الرائعة التي أثرت النص ، وجعلتنا نستمتع بالتنقل بين كلماته مرة أخرى
محبة لا تنضب أبداً)