كنت حين أغفو على كتفي الألم يماطلني و يساند انبعاث جثة الشجن بداخلي حتى لا أكاد أصرخ طفلا يولد من جديد ... حتى أعتزم كتم أنفاسي و أنا بعد في لفافة الأحزان ... أشرع في فك خيوط وسادتي الحريرية المعقَّدة التفاصيل و أنسجها شعرا يغطي قامة حزني الفارهة ....
تمتد عصور و تطوّق دفاتري و أسكر للحظات ... كانت الكتابة نشوتي الوحيدة التي أتخبط عند حدودها بكل حرية و دون أن تلطمني أمواج بحر ليس لي ... دون أن يصطدم قاربي النحيل بصخرة طاغية أو جبل جليدي كوَّنَتْه أنفاس الصيف المعْتلّة .... وكأن الصيف ارتدى حلَّة ليلة شتوية لبعض اللحظات .. نشوة استحضار ملكه السرمدي .. و استحضار لأرواح اختفت بغموض شديد بين دفاتره المنسية ..
كنت أجلس و في حضني قطعة ورق صفَّفْتها على آخر موضة لتسهِّل علي مهمة رسم الكلمات المتدفقة كألوان صارخة .. كثيرا ما تشنقني قبل أن تتجاوز نحري لتصل سقيمة، تنحَّط كعصفور مكسور الجناحين على الصفحات بعد أن تجبرني على البكاء و عرض مفاتن الألم و الانكسار بداخلي ....
كنت أبكي بكائي المميّز كلّما شعرت أن الألم تدحرج على جسدي مهيلا ليصل حافة الكلمات .... بكائي الجاف الذي تنمو على حوافه عاصفة شعرية صامتة تجتث من نفسي سكينتها، تذيب صقيع الاحتمال بداخلي فيضطرب كياني و ترتجف هواجسي لدرجة الانزواء الحسي ... أجلس بين كلمات قصيدتي ألملم حروفها و أجفّف دموعها .... بمنديل شَرَّحته هفوات الألم ألف سنة فاعتاد ممارسة طقوس الانسياب التلقائي على وجنتيّ لمحو أثار الأودية المرسومة ...
رحت أجوب الشوارع ليلتها أبحث عن شيء أضاعه طيشي يوما ... بين السيارات، بين اللّافتات، بين ألاف المصابيح المعلّقة في انسجام تام و كأنّها تستعطف القمر الذي بدا باهتا و كأنّه أصيب بزكام خفيف من وقع المشاعر الباردة التي كانت تمارسها الشوارع الموبوءة و الأجساد الموبوءة و السيارات التي تصطف أحيانا على قارعة الطريق في نواحي متعددة، دون أن يجرفني الفضول لمعرفة سبب الركن المتشابه ... كأنّها حمى تجتاح الشوارع، حين يزحف اللّيل راجلا نحو مدينة لفَّها ضباب سجائر المساء .. و تاهت في زوابعها و متاهاتها طفولة منهكة ..
كنت حزينا . أعُّد دقات حزني الني كانت تتسارع على طبول خطاي المترنّحة و جسدي المحموم من نزلات آلامي . رفعت بصري حين فاجأتني خاطرة الهروب من العتمة المحيطة لتصطادني أنوار المدينة المتلألئة في خبث أنثى ... تترصد ضحاياها من المجانين حتى تسلبهم لحظة طيش كانت مقيّدة لسنوات ..
المدينة تبدو كأنّها تحتفل بمهرجان نجوم ليلي ...
جلست على إحدى المقاعد المهيأة خصيصا لشحن بطارية النزوات و الانقياد نحو مستنقع الضياع ...
تقابلني لوحات فنية شديدة الإتقان و أضواء منعكسة ... و زخارف و جماجم و رقصات على طبول الاستهتار .
كان هناك ملهى ليلي أم قد يكون مرقص تساوت عند مداخله أفرشة حظائر السيارات من حيث أناقتها و الذوق الرفيع لمرتادي المكان .... ممن يملكون صلاحية التجوال ليلا و كأن مظاهر البذخ بطاقة دبلوماسية ترفع أمامها تحية عسكرية خاصة .. و تلويح بأعلام بلد مجهول بكنية راقصة ..
أطياف تتهاوى كأنها نيازك في عتمة الليل تعكسها الأضواء الملوثة من كل حدب و صوب قررت فجأة الدخول لأحتسي كأسا من مرارة الدنس الموجود داخل كهوف العصيان .. دلفت في هدوء ..
كانت مظاهر الجنون تستهويني أو بالأحرى تستهوي فضولي ..
دلفت في صمت قاتل، لم تحرِّكه زوابع الغناء الصاخب و لم تزحزحه شظايا الأجساد المتناثرة هناك .. جلست و رحت أراقب تحت شمس ليلية قوافل الجنود التي كانت تهطل كأنّها تتهيأ لدخول حرب مصيرية ...
الطاولات قد امتلأت، اقترب النادل منيّ و عرض عليّ أفخر أنواع الكؤوس و ألمعها ... كأنّ الرجولة هناك تُقاس بكمية الجرعات المستلقية على ظهر الوعي، فإما تُشْغِله قليلا أو تُشرِّده ألاف الكيلومترات فيتيه .... تُقاس بحجم الكؤوس المنتقاة للتشابك ...
كان العالم من حولي قد ثمل فتصاعد دخان الأصوات المتعالية حتى كتم على أنفاسي ... ارتاحت بذلك المدينة من غطرستها و اتزانها، اختفت قهوة المساء الفاخرة و سرحت البدلات الفاخرة في عالم آخر و اضمحلت الفوارق ...
هناك على طاولة الحقيقة تشرَّحت الأنفس و اتسعت رقعة التجرُّد من الكذب و النفاق ... بدا الكل على سجيَّته من دون أقنعة و لا زيف ...
تبدد العمر في كأس أُفْرِغَت من محتواها للتو ....
أبعدت نظري عن حفلة التعرَّي من المبادئ تلك، كانت هناك راقصة تتلوّى و كأنها تحاول الإفلات من النوتات الموسيقية المقذوفة نحوها ... رقصها جميل و بذخها جميل و دناءتها أيضا جميلة ...
عند حدود قدميها أُشعلت الشموع و رقدت الملايين و الملايير تداعب خطاها الرشيقة فتزيدها تمايلا .... و كأنّ لسعات النقود المتقاذفة أصابتها بهستيريا و انهيار جسدي مفاجئ ..
لم أطلب شيئا .. لأنّي شعرت برغباتي المتكرّرة في الغثيان من تلك المناظر الفظيعة .. و الحقيقة أنّي كنت لا أشرب و لم أفكّر ليلتها في تذوق النبيذ بقدر ما فكرت في أن أخفّف عنّي وطأة أنفاسي الحزينة و تنهيداتي القاتلة .... و قصيدة شعر متلعثمة رفضت مبارحة شفتيّ فحبست ما بعدها من كلمات مجحفة في حق الطفولة المفضوحة هناك في صورة أنثى، ارتدت كعبا عاليا كي تخدع شهادة ميلادها ..
لا أدري كم مرَّ من الوقت على جلوسي وحيدا بتلك الطريقة ... رغم أن خُلوتي تلك كثيرا ما قطعتها أطياف النساء ... و لعنات الفاتنات ... و ضحكات متكررة رغبة في الإغراء و كنت أشيح بنظري عنهن قدر ما استطعت .. و قدر ما أملته علي كرامتي الأدبية .. !!
لن أخفي أني ربما شعرت بميل و انجذاب نحو بعضهن فلو أنكرت ذلك لكنت شرَّحت رجولتي على طاولة الكذِب و النفاق .. لكنّي تداريت خلف مبادئ قررتها أن تكون رفيقتي بدل تلك المرأة المختفية ....
تساءلت ..كيف لمثل ذلك العالم أن يدَّعي الحب و شهقات اللّيل الصاخبة تكسر كل إطلالة لقصيدة شعر عفيفة .. تحرق الحروف و هي بعد في رحم الشفاه .. تغرق قاربا كان يحمل ذخيرة مواقد الشتاء .. تلتحف بشراع سفينة لتوِّها قررت الإبحار .. و كأنّ التغطي في موسم بارد يحرر الفصول من شذوذها في ممارسة طقوس غيرها ..
ليلتها كنت بحاجة ربما لنوع من التحنيط كي أحافظ على جسد مشاعري الغض من أن تتلفه أنامل الأفاعي الغارقة في الدنس .... تمنيت لو أننَّي غادرت غرفتي و تركت كل أفكاري و رغباتي بين جدران دفاتري و أحكمت إغلاقها ... حتى لا تتوشّح شيئا من تلك الفساتين الغارقة في الدّجل و التسوّل العاطفي الكاذب .. حتى لا تنهار أساطيلها خلف قذيفة شعرية ملفّقة تسرح بين أبياتها لغة عامية و منافذ كلمات غربية ساقطة، تداري عيبها خلف قافية مختارة بتواطؤ شاعر باع قوافيه بالمزاد العلني لحاجته الماسة إلى نقود تغطي مصاريف ليلة مشبوهة .
تمنيت لو أنّي تركت جزءا من ذاكرتي هناك ..تحت وسادتي، تحت سريري المبهم المتعجرف ... بين دخان سجائري الشعرية النزعة، التي تنفث دخانها كلمات ... كنت حين أكتب تتصاعد أبخرة الحروف لتبلغ سقف غرفتي و ترتسم كأنّها أنثى دون ملامح .. كانت هي المرأة التي أحب بكل تصاميمها و كأنّه يستحيل أن تُرْسم امرأة واحدة بكل تلك التفاصيل الخارقة، الدقيقة ... لكنّي مع هذا شعرت أنّها موجودة في شبر ما من هذه الدنيا ....
لطالما ضغطت على نفسي و أسرفت في الكتابة ليتكاثف الدخان حولي حتى أبصر ملامحها ... حتى أبحث عنها بين أنقاض هذا العالم .. و في جيبي وثيقة هوية لها و صورة دخانية ملوّنة مطبوعة بآلتي الكاتبة .. و بقايا سجائر ..
لكنّها لم تظهر ....
شعرت بشيء ما يلامسني فأصبت بحالة ذعر مفاجئة بفضل ما تجرّعته من كؤوس الحزن و التذَّمر و الانصياع لأفكاري الغريبة ..انتفضت فجأة و قبل أن أنتبه من حالة ذعري تلك أطلَّت هي من خلف ستارة شعرها المكهرب تماما كما تكهربت أشلائي حينها .... لم أبصر ملامحها بقدر ما أمسكت ببقايا دخان شعرها المتموّج المجنون و هي تنحني لترفع شيئا ما قد سقط على الأرض ... قد يكون أي حرف من حروف قصيدتها التي انهالت تقطفني من حديقة همسي الصامت و دفاتري غائبة ... أشيائي حبيسة بين جدران غرفتي ...
فأين الخلل ... ؟؟
ما هو الشيء .. ؟؟ الذي اختفى و تسلَّل خفية من بين مقتنياتي الحسِّية ليسقط مني في لحطة شرود .. و يتبعثر فتلتقطه تلك المرأة التي كانت هناك قبل ثوانٍ ..و في أقل من ثانية رحلت ..
أتراها قصدت أن لا تُريَني ملامحها حتى لا أحاول استرجاع حقيبتي المفقودة .. و أشيائي المنتَشَلة في لحظة تيه ..
لم تتكلم، لم تُعَقب ....
شيء ما جذبني لتلك المرأة .... لم أفهمه ...شعرت أنّها جزء فرّ من دخان غرفتي، تتشابه تماما مع صُوَرِي منزوعة الملامح ...
انصَرَفَت في صمت أَخْرَسَ من حولي كل تلك الأصوات و كأنَّها حالة صمم موسمية مؤقتة .. تزامنت مع فصل ما ... لم تتضح معالمه، للحظات أضعت ملامح كوكبي و كأنّ الخريف الذي يعيشه العالم من حولي قد تلاعب بأوقاتي .. و ساعاتي .. و حالة الطقس ..
لا شد ما كنت مغرما بالساعات ... لطالما كنت أماطل الوقت في ساعة يد جميلة ضائعة في زيف أوقاتي حتى إن تَمَكَنَت من ضبط نفسها و خادعتني أفكر في اقتناء ساعة جديدة بريئة لم تعتد بعد حساب الزمن بثواني النشوات الهستيرية ... و لم تعتد نصب شِباَكِها تحت أجندة أفكاري كي تشوِّه معالم الانتظار ...
ذلك الانتظار الذي رَسَمَت حدوده الفاتنة بألوان قوس قزح .. فلا أكاد أشعر بغير التواءات القصيدة و هي تُشْغِلني عن محاولة تَسلُّق عقارب الساعات .. فينتهي الوقت على حدود قصيدة جديدة تَطْلُع من فجر أحلامي ... تتمدَد محاولة الاستيقاظ فأنام أنا و قد أهلكني التعب ..
وضعت شالها الحريري على ظهرها المكشوف و غابت في زحام دخان السجائر القاتم، غابت كحرف موسيقي بين تموّجات المعازف .. غابت بين المارة ... بين الطاولات المكْسُوَّة بحُلَّة النبيذ و أنواع المسكّرات ... و تركت طاولتي الفارغة صامتة .. تجتَّر ألمها و تستعطف فصول النسيان ..
هُتُافُ مِشْيتها يدندن بأعماقي قصيدة للتو شقَّت شرنقتها و تطبَّعت بطِبَاع فراشة جامحة ...
غابت و رقصات شَعْرِها لا زالت مرسومة فوق ظلال طاولتي و عطرها لا يزال يعربد و يمارس طقوس جنونه على حواف ذاكرتي العذراء ...
غابت و تركت شظايا الانكسارات المتتالية تُسْرِف في جرحي و بتر الكلمات... كأنَّها دمّرت بزلزال سقوطها من على شرفاتِ تمثالي القابع تحت المطر و قِطَع البَرَد تداوي انكساراته و تُرَمِمُها ... حتى فصل الشتاء لن يستطِع أن يرَّمم جزأه المقسوم لهذه اللّيلة ... حتى ثلوج أقسى شهر شتوي لن تفلح في تغطية مساحات الصدأ التي عَلَتْ خاصِرِتَه ... حتى درجة الصفر لن تلملم قطرات بكائه ...
كيف لم أنتبه حين عبرت ظلالها الماسية فناء ذاكرتي .. !!
كيف لم أنصت لدقات طبول مشيتها !! و هي تمر بجانبي حتى انحنت ..
كيف استطاعت أن تعلِّق على حبال شَعْرِها أجراسا أخرجتني من غيبوبتي برنينها المتَقَطِّع، الساحر المتداخل مع لحن هطول مطر خفيف و دقات رعدية تشبه صوت قطار قادم من شرق الجنون بوشاية صدى .. ؟؟
و كأنِّي كنت لحظة مرورها مرتديا لحافا من ياسمين . كأنِّي اتخذت من زهره الأبيض كفنا جديدا يناسب الموت لثوان .... ثم بعده قاعة إنعاش على مرأى من الطبيعة لاستكمال الإفاقة ..
عدت لغرفتي، لدفاتري، لأوراقي، لسلَّة مهملاتي، لدخاني الذي ينتظر اشتعال الحروف .. لترَّسُبات ذاكرتي التي تبحث عن منفذ كي تتسلّق جدار الصفحات ...
لأول مرة فكّرت أن أطرد بقايا الدخان العالق هناك و كأنِّي خِفْت أن يرسم بتحدِ شبح أنثى في صورة المرأة التي رأيتها .... بتفاصيل مشوَّهَة تماما .. لأنِّي رفضت أن تكون القدِّيسة التي رَسَمَتْها أحلامي مجرد غانية ترقص على حِبَال اللَّيل و تتخَّفَى خلف ستارته المعتَّمة ...
فتحت نافذتي و أشعلت الكلمات بحرقة تنهيداتي . لبرهة شعرت أن السماء قد أَبْرَقَت للمطر قصيدة تدعوه فيها للهطول و ترسم له الخطوط التي سَيَتْبَعُها حتى يجرف معه رماد الآمال المصفَّفَة ..