كان يرتعد خائفا كعصفور بين يدي هرة جائعه عندما ألقي القبض عليه في حديقة صغيرة وسط المدينة. كان يعتقد أن ثمة أشرارًا احتلوا قريته الصغيرة التي تركها قبل شهور عندما ذهب في رحلة طويلة للعمل مع الفارس ذي الحصان الأسود، برفقة تسعة عشر رجلا من أصدقائه، ثم اختفى بصورة غريبة، وعندما عاد إليها وحيدا لم يجد أثرا لقريته ,لم يجد أحدا من أهل القرية , ولم يجد أحدا من أفراد عائلته .
وجد مدينة كبيرة خيالية تجوبها السيارات، وفي أجوائها تحوم الطائرات، في حين اختفت الخيول والعربات التي كانت الوسيلة الوحيدة للتنقل .
ما اسمك؟ سأله المحقق .
جو مارتن ويلسون. أجاب الرجل .
عمرك ؟ سأله المحقق .
لم يجب الرجل. و بقي صامتا .
ألم تسمع السؤال ؟ كم عمرك ؟.
نظر الرجل للمحقق نظرة عدائية مشوبة بالخوف والحذر .
خمسة وأربعون عاما .
لا يبدو عليك ذلك، لماذا تكذب ؟.
إنها الحقيقة يا سيدي .
ولدت قبل الحرب الأهلية بأربعين عاما؛ أي عام 1736 , نظر الرجل إلى التقويم الذي أمامه على المكتب وعندما قرأه 15/6/1995م .
انتابه شعور بالغرور واعتقد أن الرجل الذي أمامه مجنون، أو ربما يكون صيدا ثمينا .
من أين أنت؟ مكان إقامتك الحالي؟
احتار الرجل بماذا يجيب، فقريته التي غادرها قبل شهور قليلة ـ كما كان يعتقد ـ لم يعد لها وجود ......
جو مارتن ويلسون شخصيةٍ مشهورة، ولد عام 1786م في مدينةِ هدسن فعمل فيها كل ما يعرض عليه وهو في العاشرةِ من العمر ولم يتعلم قط لسوء حالةِ والده الماديةِ المدقعه جداً، ثم انتقل إلى مدينةِ جيرسي هرباً من معاملةِ والده المتحيزةِ والسيئةِ بمساعدةِ صديق له يدعى ديفد كلارك. عمل في جيرسي موزعا للجرائد، ثم انتقل إلى مدينةِ برانس هياماً وحباً في ليزا التي تزوجها هناك وعمل في مصنعٍ للنسيج مع زوجته ثم انتقل إلى مدينةِ موندا هرباً من والد زوجته الذي لم يبارك ذلك الزواج ولم يوافق عليه وهدد بقتله وتطليقه من ابنته.
اشتهرجوكثيراً ولمع اسمه وأحّبه كل من تعامل معه، كونه إنساناً بسيطاً ومحباً للجميع ، وكان يظن دائماً أنه مقصر مع الآخرين يتذكّرُ مقولة والده الشهيرة التي كان ينعته بها باستمرار ويرددها على مسامعه – أنت ساذج وأبله يا جو- وبقي كذلك إلى أن تزوج فتاةً من أسرةٍ مرموقةً بطريقة غريبة، وقد أثرت هذه الفتاة تأثيرًا عميقا في حياته وشخصيته، فقد جعلت منه رب أسرة تفتخر به وتحبه.
مدينة هدسن 1796م عاش جو ويلسون مع أخيه الأصغر والمدلل جون وأخته الوسطى جوليت لأبوين فقيرين معدمين في منزل يدل على البؤس والحرمان؛ يتكون من غرفتين حقيرتين خاليتين من أبسط الضروريات، فيهما صناديق خشبية قديمة تستخدم خزائن لملابسهم الباليةَ وبضع بسطٍ للنوم وعدةَ أغطيةٍ مهترئه وبعض أواني المطبخَ الكالحةَ . كان والده مارتن ويلسون يعمل نجاراً في محل متواضع في أحد أزقة البلدة بأجرة زهيدة بالكاد تكفي لقمة العيش. وهو رجل ضعيف البنيه متوسط الطول، أصفر البشره , رقيق اليدين، عيناه عسليتان، وأنفه دقيق، له لحية ذات شعر خفيف. وقد عرف بسلاطة لسانه . أمه متوسطة الطول، شعرها أشقر مائل إلى الحمرة، عيناها عسليتان لوزيتان، وأنفها جميل , ورث جو طيبة أمه وشكل أبيه، في حينورثت جوليت جمال وطيبة أمها .
أحبّ جو أباه وأسرته وآلمته حالة والده الصحيةِ والنفسيةِ، إذ كثيراً ما كان يتعرض للإهانةِ من صاحب العمل على مرأى من الكثيرين، فيشتم، ويلعن، وينهر، بل كان صاحب العمل يضربه أحيانا. تلك الحالة التي كان الأب يتعرض لها من أجل تحصيل لقمةِ العيش لأسرته جعلت من جو كوحش في قفص يتقد صدره غيظاً وبداخله دار صراع عنيف حول مثاله الأعلى الذي اهتز أمام عينيه مرات ومرات إذ مثل أمام عينيه ذليلا خانعا لأوامر سيده صاحب العمل، مما حدا به يوماً إلى الخروج من البيت مبكراً هائماً على وجهه في شوارع البلدةِ على غير هدى يرا قب الناس وأحوالهم ويرى عجباً من سادةٍ ظلمةٍ قساه وفقراء بائسين , فيلعن الحياةً وقسوتها ويلعن أغنياء البلدةِ البلهاء ذوي القلوب القاسيه . ذات مساء التقى جو ببعض الصبية من أقرانه يتسكعون في شوارع البلدة قرب الحي الذي يسكن فيه ولكنهم كانوا يلبسون أفضل منه ، ولديهم بعض النقود التي لم يلمسها يوماً بيده ، وعندما سألهم عن حالهم وجد أنهم من عائلات فقيرة مثله تماماً إلا أنهم يعملون في أسواق البلدة أعمالاً مختلفة كالعتالة والتنظيف لقاء بضع بنسات . عندما فاق جو من حلم الطفولة وأصبح صبياً يعي ما يدور حوله ثار ضد حياة الفقر التي يعيشها مع عائلته، وأخذ يفكر في رفع مستوى حياتهم ومساعدة والده المسكين الذي أعياه المرض في وقت زادت معه تكاليف الحياة. طلب جو من الفتيه أن يقبلوه رفيقاً لهم يشاركهم حياتهم، ويتعلم منهم كي يستطيع مساعدة والده، ذلك الأمر الذي رحب به الجميع . في صباح اليوم التالي وفي الموعد المتفق عليه وفي المكان المحدد التقى جو أصدقاءه الجدد ورافقهم ذلك اليوم ليتعلم منهم ويساعدهم، وما هي إلا أيامٌ قليلة حتى استقل جو عن رفاقه لما رأى منهم معاملة سيئة للفقراء والمساكين وكبار السن، وأخذ يعتمد على نفسه ولكنه اتبع سياسة تختلف عن غيره فكان يقبل أي عمل يعرض عليه، ويرضى بأي أجر يدفع له وكان يعمل في بعض الأحيان مجاناً عندما يرى الفقراء على شاكلة والديه فيساعدهم ويشفق عليهم . أحبه الجميع لإيثاره وحبه مساعدة غيره، فكان الناس يأخذونه من بين الصبية الآخرين حتى أنه كان يقضي يومه كله في العمل دون انقطاع وذلك لإخلاصه وأمانته . كان جو ينسى الشقاء والتعب في كل مساء عندما يعود إلى بيته ويضع تلك البنسات القليلة التي يحصل عليها في يد والده وهو يرى آثار السعادة والابتسامة على وجه أبيه وأمه، ولكنه سرعان ما يقبع في زاوية البيت كعادته في كل مساء حزيناً كئيباً وغريباً بين عائلته شاعراً بالألم والحزن والتعاسة . الأب يداعب جون بشغف ومحبه : عزيزي جون , يا لك من ولد طيب , سيكون لك مستقبل رائع يا بني . قالت الأم وهي تحتضن جون: ما أجملك وما أروعك! ستكون لنا عونا وسندا، سترفع رؤوسنا بين الناس وسنفتخر بك يا بني . جو يسمع ويتألم، جوليت تنظر بشفقة إلى جو وتتمنى أن يكف والداها عن تدليل جون . تهمس في أذن أمها : أمي أرجوك، لا تبالغي في تدليل جون، تحدثي مع جو مرة بطيبة قلب، فهو يشقى ويتعب من أجلنا جميعا، يسمع الأب كلام ابنته : جوليت عزيزتي، لا أحد يعترف بجو، الجميع ينادون علي بجون، بل يسخرون مني بسببه، بالأمس عندما جاء إلي جو، المعلم نهرني وعنفني وكاد أن يضربني عندما علم بأن جو ابني، إنه عار علينا جميعا، انظري إليه، إنه أشبه بحيوان، فلتأخذه الآلهه بعيدا عنا، إنه لعنة علينا، إنه سبب ما نحن فيه من الفقر والعذاب، صدقيني بنيه منذ ولد هذا الأبله ونحن في فقر شديد ومرض مؤلم . جوليت : إنه منا وله علينا المحبة والاحترام، إنه يكد ويشقى طوال اليوم ليساعدنا، فقط منذ أن عمل جو بدأنا نشتري أشياء لم نكن نستطيع أن نشتريها من قبل، علينا أن نقدر ذلك والدي . الأب : أنت لا تفهمين بنيه إنه، إنه يخفي المال عنا ولا يعطينا إلا القليل، لن أسامحه على ذلك أبدا . هكذا يعيش جو بين أسرته وهكذا يمضي ليلته وحياته، لقد تسبب له والداه بحالة نفسية حزينه ومؤلمه وصعبه , لكنه كان يحبهم ويحترمهم ويحب أخته كثيرا فقد كانت دوما تدافع عنه وتشعره بحبها . كان والداه يعطفان على أخيه الأصغر جون كثيراً ، وكان جون الطفل المدلل في العائلة له كل الحب والحنان وطلباته مجابة، ولكن جو تعوّدَ على تلك المعاملة غير العادلة إلا أنه كان يأمل أن تتغير المعادلة بعدما أصبح عاملاً يساعد في مصروف العائلة وبعد أن جلب لها شيئاً من الرفاهية على غير العادة أو حتى أن يعامل بشيء من الحب والحنان، ولكنه بقي منسياً كالعادة . ذات يوم عاد جو من العمل مبكرا على غير العادة، كان خائفا يرتعد كعصفور بلله القطر، دخل البيت وأغلق الباب خلفه، كان يتمتم بكلام غير مفهوم، أسعفته أخته بكوب من الماء، رمى بنفسه بأحضان أمه ونظره إلى الباب قائلا: المسلحون يطلقون النار في كل مكان، أمسكو بصديق لي وأخذوه معهم، كاد أحدهم أن يمسك بي، لكنني أفلتّ منه وهربت، قتلوا الكثير من الناس في السوق، نهبوا المحلات، سرقوا كل شيء... كل شيء. قالت الأم : لا عليك بني أنت الآن بآمان ولا أحد يصل اليك , اللعنة عليهم هؤلاء الأشرار , ليس لهم عمل إلا القتل والنهب , أين الشريف ورجاله , أين القانون . قالت الأخت : لعلهم شركاء لهم لذلك لا يظهرون إلا بعد فوات الآوان , حمدا لله على سلامتك أخي جو . كان المسلحون الفارون من القانون يعيثون في الأرض الفساد هنا وهناك، تلك الحادثة أدخلت الخوف في نفس جو، كان يهرب حتى عندما كان يرى الجند الذين يحافظون على الأمن والقانون، وكان يعمل في السوق بحذر وخوف ويجد في البيت نفسه منبوذا من الأب والأم، حياة اعتادها جو وعاشها بمرارة .
اعتادت العائلة كل مساء الجلوس والحديث، وكان محور الحديث دائماً جون ونظرات المحبة والدلال تنصب عليه، فيما كان جو وحيداً واضعاً رأسه بين ركبتيه حتى يغشاه النعاس فيخلد في نوم عميق من التعب والشقاء، ولم يفق من نومه إلا في الصباح الباكر على صراخ أبيه الذي يطلب منه الذهاب إلى العمل . يستيقظ جو كل صباح مبكراً فيرتدي ملابس العمل الرثة ويتناول الطعام اليسير مع والده ونظرات عينيه الحزينة ترقب أخاه جون وهو يغط في نوم عميق في فراش دافئ وهو يراقب قبلات والده التي تودعه كل صباح قبل خروجه للعمل ، فيما كان ينتظر جو يوماً آخر من الشقاء والتعب في ظل ظروف الشتاء القاسية والأمطار الغزيرة والبرد القارس . كان يفكر: كيف سيعود آخر النهار تقطر ثيابه ماءً وهو يرتعد من البرد في حين يرى والده يحتضن جون بشغف ومحبة أمام المنزل لدى عودته من العمل كل مساء؟ هل يتقبل الأمر فحسب ؟ أم عليه أن يدافع عن نفسه ليجد له مكان في قلب والده وبين أسرته , متى سيشعر بأن له قيمة في البيت ؟ لكنه كان يقول في كل مرة هذا والدي لا أستطيع أن أتحدث في حضرته , علي أن أعتاد على ذلك . كان جو بسيطاً ساذجاً ذا رأس كبير وعينين واسعتين وجبين ضيق وحواجب عريضة يميل إلى السمرة نحيفاً طويلاً سريع اللفظ تفكيره محدود، وهو مع كل ذلك متواضع وخدوم . تمضي الأيام والشهور وجو يدور في نفس الحلقة من البيت إلى السوق ومن الشقاء إلى الألم الذي كان يدق قلبه كل مساء عندما تجتمع العائلة ويقبع هو في زاوية الغرفة يرقب ويتأمل ويحلم في عمل أفضل، بل كان يتمنى لو يستطيع الهروب من هذه العائلة بل البلدة كلها إلى إي مكان ، ليتخلص من معاناته التي يسببها له والداه بإهماله الشديد واحتضان أخيه جون حتى أصبح أنانياً، وجشعاً، ومتعجرفا، حتى أن والده أرسله إلى المدرسة ليتعلم فكان يحصل على كل شيء دون أن يقدم أي شيء . ديفيد كلارك ذلك الصديق الوفي الأكثر قربا لجو كان يمضي معه أوقات فراغه، وما أقلها ! ديفيد من أسرة متوسطة الحال يعيش حياة الأغنياء فهو وحيد والديه فكان يرتدي أفضل الملابس ويأكل أفضل الأطعمة، وكان والده موظفاً هاماً في شركة لإنتاج الفحم وقد طلبت الشركة منه مؤخراً الانتقال إلى مدينة (جيرسي) ليستلم عمله الجديد بعد أن تلقى ترقية هامة، فرحل إليها مع عائلته ولكن ديفيد لم ينسَ صديقه جو وبقي يبحث له عن عمل كما وعده حتى يكون قريباً منه . كان حلم جو الابتعاد عن البلدة يوماً ما، وكان يعلم أن والده لن يسمح له بذلك لأسباب كثيرة منها خوفه من فقدان تلك البنسات التي يقبضها منه كل مساء . في صبيحة ذلك اليوم , تذكر جو صديقه ديفد , وتذكر اللقاء الأخير بينهم عندما مر من أمام منزلهم وشاهد الساحة التي جلسا فيها , كان يترائى له خيال ديفيد وهو يحدثه. قال ديفد: لا تحزن يا جو , لم أنساك أبد , سأبحث لك عن عمل وسأرسل لك رسالة , أن أعلم أنك تتألم , تريد الإبتعاد عن عائلتك , أعلم أنهم يسببون لك الأذى , أريد منك أن تكون سعيدا وهذا واجبي . قال جو : لن أنسى لك ذلك عزيزي , سأكون ممتنا لك طول حياتي , الأمر أكثر من أن أحتمله من والدي , أنهم يدمروني كل ليلة , أنام وأنا أحترق ألما , أفيق وأنا أرتعد خوفا من والدي الذي يلكزني بقدمه كل صباح , أعيش يومي خائفا من العصابات والرصاص . لحظة مرت كالحلم , تنفس الصعداء عندا تذكر أن ديفيد لن ينساه , واصل العمل على أنغام ذلك العهد . في أحد الأيام وصلت رسالة من ديفيد يطلب فيها من جو اللحاق به بعد أن حصل على عمل له بأجرة جيدة ، كان جو سعيداً بتلك الرسالة التي ستحقق له حلماً طالما راوده ليبتعد عن البيت وذكرياته الحزينة ، والمؤلمة مع عائلته ، وكانت تلك الرسالة تحوي عنوان ديفيد والموعد الذي سينتظره فيه في محطة القطار كما أخبره صديق له قرأ تلك الرسالةِ له . صديق جو يقرأ الرسالة : عزيزي جو وجدت لك عملا، عليك القدوم فورا أنا بانتظارك , سأنتظرك بعد ثلاثة أيام في المحطة , ديفد كلارك . كان فرح جو كبيرا وسعادته لا حدود لها , ألقى السلة عن ظهره , رقص وغنى وكأن الدنيا أصبحت ملك يديه وأن حلمه الأكبر قد تحقق . قال جو : هاك السلة صديقي إنها لك , ولن أنسى حياتي بينكم فقد تعلمت منكم الكثير , أريد منك أن تكتب رسالة لوالدي , لن أخبره برحيلي خوفا من أن يمنعني من السفر , وأرجوك لا تخبر أحدا ريثما أغادر البلدة ـ ثم احتظنه بين ذراعيه وودعه وعاد إلى منزله مساءا . قال في رسالة مختصرة موجهة لوالده : "والدي العزيز أحبكم جميعاً ولن أنساكم أبداً وأنا مسافر إلى بلدة (جيرسي) للعمل هناك سأرسل لكم ما أستطيع من النقود لأنكم بحاجة لها أكثر مني . التوقيع: ابنكم جو" ترك جو الرسالة في البيت وغادر البلدة مبكراً، لكنه كان قلقاً جداً، فهذه هي المرة الأولى التي يبتعد فيها عن أسرته ووالديه، وهي المرةّ الأولى التي يسافر فيها خارج البلدة ويستقل فيها القطار، وكان يخشى ألا يجد ديفيد بانتظاره كما خشي أنه يواجه مشكلة في العثور على منزله . أفاق والد جو مبكراً كعادته، لكنه لم يجد جو في فراشه، جال بعينيه حتى وقعت على الرسالة الموجودة في موقع ظاهر للعيان في زاوية البيت….نظر إليها، وأخذ يتأملها وقد بدا عليه القلق ….كان منظرها يوحي له بشيء غير طبيعي ….إنه يعلم أن جو لا يعرف الكتابة والقراءة….لكنه كان خائفاً ….التقط الرسالة وأخذ يتفحصها ثم نظر إلى جون …. كان يغط في نوم عميق فموعد المدرسة لا زال بعيداً ولكنه كان حائراً وخائفاً، فاضطر لإيقاظ جون من منامه ليقرأ له الكلمات الغامضة في تلك الرسالة الرهيبة .أخذ جون يقرأ رسالة جو…. كانت دموع والدته وأخته جوليت تنهمر ولكن الأب كان غاضباً وأخذ يتمتم، ثم ارتفع صوته وتكلّم بكلام غير مفهوم، لكن الغضب سيطر عليه فترك البيت مسرعاً إلى وسط البلدة حيث العربات المتجهة إلى البلدات المجاورة . كانت الساحة فارغة، لقد غادرت العربات قبل وصوله بفترة طويلة، جلس على الأرض وهو يتأمل المارة وكان يأمل لو أنه يستطيع إعادة الزمن إلى الوراء قبل أن تنطلق تلك العربة ويخرج منه ابنه ودموع عينيه الغزيرة تتساقط على الأرض …. كانت يداه تمسكان برأسه وتشدان عليه بقوه وعنف وكان الألم يعصف بذراعيه وكتفيه ورأسه أيضاً، كانت الشمس قد بزغت ونشرت أشعتها في كل مكان وقد تسمر مكانه كتمثال ونسي أن موعد العمل قد حان . لقد أيقن أنّ جو غادر إلى الأبد وأنه لن يعود وكان يتمنى لو تعود عقارب الساعة للوراء ليضم إليه جو بحب وحنان ويعوضه عن قساوة قلبه وإهماله له لأنه تأكد أن جو قد هرب من معاملته له وأنه فقده إلى الأبد . مر وقت طويلٌ وهو يعاني تأنيب الضمير بينما كان جالساً على إليته رافعاً ركبتيه ككنغرٍ يراقب أعداءه، ويداه ما زالت تقبض بقوةٍ برأسه، كان وقتاً عصيباً، كان يخيل إليه بينما هو مجهشٌ بالبكاءِ أن ابنه هرب من قسوته عليه وإهماله له، وقد صارح نفسه بحقيقة تفريغ الضغط الذي كان يواجهه من رب العمل في ابنه الذي كان يعامله كعبدٍ أو حيوان لا يأبه له إلا عندما يأخذ منه ما حصل عليه من بنساتٍ لقاء شقاء ساعاتٍ , كان يقسى عليه في الكلام البذيء والنعت الذليل وعندما تذكر خنوع ابنه له دون أن يجيب عليه أو النظر في عينيه يتمزقُ ألماً وحزناً وهو ذليلٌ يقبع في زاويةِ البيت حتى يغلب عليه النعاس . تذكر ساعات الصباح الباكر في الشتاء القاسي حين كان يركله بقدمه لينهض إلى العمل وينهره بشده وينعته بالأبله , تذكر عندما كان ينسل من الفراش ويذهب دون إفطارٍ إلى مصيره المتعب كأنه كان يريد الخلاص منه فيزداد في النحيب ويزداد الألم في صدره . يلملم والد جو نفسه ويجر جسمه المنهك عائداً إلى بيته كئيباً حزيناً وقد غابت عيناه تحت هول الدموع الحارقه كمريض محموم، عندما رأته زوجته بتلك الحالةِ التي تضمر الشقاء والألم بدا عليها أنها أكثر شقاءً منه؛ لقد عاد وحيداً دون ابنه، فكرت الزوجةُ: لو أنها استسلمت لليأس لما إستطاعت أن تتغلب على قسوةِ الحياةِ , كانت تنتحب ببطء جانب زوجها، تشجعت قليلاً واقتربت منه ووضعت راحةًَ يدها على رأسه تمسده برفق وقالت له : لا شيء يمكن أن يحدث لجو، أنا أعرف ذلك إنه ولدٌ طيبٌ وشجاع وسوف يتدبر أمره . قال والد جو بصوت مخنوقٍ : لقد قسونا عليه كثيراً، لم نشعره يوماً بأنه ابننا، لم نعطه حقه من الحنان والحب , لقد كنا السبب في هربه , كانت جوليت عى حق , لم نسمع لها , لم نأخذ بنصيحتها , كانت تشعر به أكثرمن وكأنها تعلم مصيره , يا للمسكين , كيف سيتدبر أمره في هذا الطقس البارد،أين سينام؟ ماذا سيأكل؟ كيف سيعيش؟ لن أغفر لنفسي ذلك ما حييت ...ابداً ....أبداً . العربة تسير مسرعة وصوت عجلاتها الحديديةِ تهز المكان وهي تسير بين التلال والسهول ، والركاب في هرج وضحك ، وفرح ومرح، سيطرت أصواتهم على المكان كله بينما يجلس جو على كرسيه كئيباً كعادته وهو يفكر في اللحظات القادمة؛ أخذ يلوم نفسه على ترك منزله وعائلته بتلك الطريقة , أيقن أنه تسرع في التصرف , لكن لا مجال للعودة بعد الآن , كان هو في دوامة كبيرة حتى كأنه لم يكن موجوداً مع الآخرين في العربة وإن كان جسده ملقى في العربة كحقيبة ملابس .
يتبــــــــع
ي
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 09-08-2011 في 12:41 PM.
مدينة جيرسي 1799م
وصلت العربة إلى المحطة في بلدة (جيرسي) وكان جمع من الناس ينتظرون , وجو ما زال قلقاً وهو يترك العربة بحذر وخوف إلى عالم جديد وعيناه ترقب الناس أمامه تبحث عن ديفيد بينهم، ولكنه لم يشاهد إلا أيدي تلوح من بعد في آخر الزحمة حيث توجه نحوها وهو يخترق ذلك الجمع حتى وصل إلى خارج حشود الناس التي التقت بعضها ببعض من قادمين ومستقبلين وجو يأمل أن يكون مثلهم وأن يلتقي بديفيد كما التقى الناس بعضهم .
ولكنه لم يعثر عليه كما كان يتوقع فأخذ يبحث ويراقب ويزداد حزناً وهو يفكر:
إلى أين سيذهب ؟
وأين سيقضي ليلته ؟
وكيف سيبحث عن منزل صديقه ؟
جلس على الأرض واتكأ مهموماً على الحائط , أين أنت ديفيد بحق السماء ؟
وفجأة تذكر رسالة صديقه فأخرجها من جيبه ثم توجه إلى أحدهم وطلب منه أن يدله على عنوان ديفيد المكتوب داخل الرسالة .
كان الرجل يقرأ في الرسالة وجو يتأمله ويأمل أن يأخذ بيده إلى منزل صديقه وإذا بصوت قادم من بعيد يصرخ …. جو أنا هنا ….
جو أنا هنا ….
التفت جو إلى حيث الصوت وإذا بصديقه ديفيد يأتي مسرعاً وهو يبتسم ….
نسي جو الرسالة مع الرجل وأخذ يركض مسرعاً نحو صديقه حتى إذا ما التقيا تعانقا طويلاً وجو يبكي فرحاً من سعادته , عزيزي ديفيد خشيت أن لا تحضر , كنت خائفا . قال ديفيد : أرجو المعذرة جو , كنت في المدرسة , أنا سعيد بوجودك معي جو . قال جو : لا تعلم كم هي سعادتي , أنت ... أنت ديفيد مثلي الأعلى , أنت الصديق الوفي , أنت أكثر من أخ ’ وجود معك يشعرني بإنسانيتي , أنت الوحيد الذي يحترمني .
ثم عاد إلى الرجل وأخذ منه الرسالة بعدما شكره .
غادرا المحطة إلى منزل ديفيد وسط البلدة وهناك وفي الطابق الأرضي ( التسوية ) كانت مفاجأة سارة بانتظار جو … غرفة واسعة بها كل ما يحتاجه…حتى أنّه وجد فيها ما لم يجده في بيت والده ، فكانت غرفه جميلة ومريحة لها مدخل مستقل من الجهة الغربية….
كانت الغرفة تحوي كرسيين من الخشب وطاولةً صغيره، عليها بعض الصحف والمجلات، وسريرٌ من الحديد يعلوه فرشةً قطنيةً ذات قماشٍ بلون السماء ومخدة من النوعِ ذاته وبطانية ذات ملمس ناعم، مغطاة بشرشفٍ أخضر اللون وكان ثمةً أواني مطبخ تنتشر في الركن المقابل للسرير وإبريق ماءٍ من الزجاج وكاس لشرب الماء . سهر الصديقان بعض الوقت وأدرك ديفيد بأن جو بالرغم من فرحته إلا أنه مرهقٌ للغايه, وعيناه ذابلتان شبه مطبقتين , فتركه لينام وأغلق الباب خلفه . غط جو في نومٍ عميق ولم يفق إلا صباحاً، نظر من النافذةِ إلى الشمس وهي بالكاد قد بانت وبدأ قرصها الذهبي يوزع شعاعه في كلِ مكان وتأمل الأشجار في الحديقةِ ثم استعد لحضور ديفد لينطلق به إلى عمله الجديد .
كانت تلك الليلة من أجمل الليالي التي عاشها جو مع صديقه الوفي حتى أنه نسي أو تناسى والديه وإخوته وأنانية جون .
في الصباح اصطحب ديفيد صديقه جو وهو في طريقه إلى المدرسة وسلمه عمله الجديد كموزع للجرائد في أحياء بلدة (جيرسي) كان الأمر يبدو سهلا للوهلة الأولى إلا أن جو واجه يوما شاقا، فقد كانت تعترضه بعض المتاعب من الصبية والعابثين …
وكان الناس غرباء عنه كما هو الحال مع الأحياء والشوارع التي لم يسبق له أن تعرف عليها، أمضى جو يومه بمشقة كبيرة إلا أنه باع كل ما لديه من جرائد .
هكذا تعود جو على تلك الحياة، ويوما فيوما استطاع التأقلم، وبالرغم من تلك الحياة الصعبة التي كان يعيشها بين أحضان عائلته وبالرغم من أن السفر والعمل بعيدا عن أسرته كان حلما له وقد تحقق ،إلا انه شعر بالغربة والوحشة بل وافتقد تلك الأمسيات الحزينة والمؤلمة معهم وذلك لأنه في بلدة (جيرسي) يقبع وحيدا معظم أوقاته بانشغال ديفيد عنه في مدرسته ودراسته في البيت إلا من بعض اللحظات القليلة التي يعرج فيها ديفيد عليه كل مساء .
أيام وأسابيع مضت تعرف فيها جو على كل أحياء البلدة بل تعرف على معظم الناس فيها خاصة في الشارع الذي يسكن فيه والمحلات التي يتردد عليها أو يتجول أمامها، و وجد بعض الأصدقاء وكان سعيدا بهم ، كان جو يتسامح مع الجميع . وفي كل مرة يتعرض فيها إلى الإهانة من البعض كان يضع اللوم على نفسه ويعتبر نفسه مقصرا مع الآخرين .
كان الأجر الذي يحصل عليه جو جيدا إذا ما قورن بما كان يحصل عليه في بلدة (هدسن) بل كان أكثر من الأجر الذي كان يتقاضاه والده ذو الخبرة الطويلة ، كان جو يرسل كل ما يزيد عن حاجته إلى والده وكان يرسل لهم أخباره أولاً بأول عن طريق صديقه ديفيد .
كان أصدقاء جو الذين تعرف عليهم أخيرا قليلين وكانوا لا يلتقون إلا في النهار عن طريق العمل فقط ولم يكن ليزوره أحد في منزل ديفيد خوفا من إزعاجهم ، أحب جو عمله كثيرا وأحب بلدة (جيرسي) أيضا وكان مثاله الأعلى في هذه الحياة هو ديفيد الذي لم يبخل عليه بشيء حتى أنه أخذ يعلمه الكتابة والقراءة، إلا أنه أصبح وحيدا بعدما تفاجأ بأن ديفيد سيرحل لأن والده سيرسله إلى مدرسه داخليه في بلدة بعيدة مما زاد في عزلته وانطوائه .
كان جو يمضي أوقاته في المنزل بعد العمل في مطالعة الجرائد وكان سعيدا بذلك لأنه تعرف على أخبار العالم من حوله للمرة الأولى في حياته وإن كانت بصعوبة وبطء شديدين .
ذات يوم بينما كان جو عائدا من العمل إلى المنزل، كانت هناك برقيه في انتظاره تخبره فيها أنّ عليه العودة الى بلده (هدسن) سريعا، لقد رحل والده عن هذه الدنيا تاركا خلفه مسؤوليات جسام ستلقى بالتأكيد على كاهل جو وحده، فجون ما زال صغيرا وطالبا في المدرسة وأمه تعاني من مشاكل صحية كثيرة، أما أخته جوليت فكانت العائلة تستعد لحفل زفافها من ابن صديق العائلة لولا وفاة والدها المفاجىء .
غادر جو البلدة عائدا إلى مسقط رأسه وهو يحمل هموما كبيرة، وتم استقباله بحرارة بالغة من أمه وأخته والجيران والأصدقاء ، ولكن والده كان قد دفن قبل وصوله بلحظات .
تقبل جو العزاء في والده من جموع الناس وبعد الغياب الطويل عن العائلة ، وبعدما أصبح المموّل الوحيد لها ، ظن أنّه اصبح السيد في البيت وأن له الاحترام والتقدير من الجميع ، ولكنه اصطدم بوالدته المريضة التي ما زالت تعتبره ذلك الصبي الساذج والأهوج ، وأن جون ما زال محط إعجابها واهتمامها وحبها مما حدا بجو إلى التفكير في العودة إلى بلدة (جيرسي) سريعا لولا إصرار والدته أن يبقى حتى تزف أخته إلى عريسها بعد أيام قليلة تنفيذا لرغبه الأب قبل وفاته . كان جو يتأمل والدته المريضة ويتمتم ـ أنت تؤذيني أمي كثيرا , أنت تدمري حبي لك , لماذا ...لماذا بعد كل هذا الغياب لا تقدري ما أفعله من أجلكم ؟ أنا أعيش وأشقى لكم , كل ما لدي أقدمه لكم , لماذا ما زلت تتجاهليني ؟ ماذا أفعل لتعتبريني إبنك الأكبر الذي يسعى على خدمتكم ؟
كان جو حزينا طيلة فترة وجوده في بلده (هدسن) وبعد أن تم زفاف أخته ودع جو والدته وأخبرها بأنه سيبقى يتذكرهم جميعا وأنه سيرسل لهم المال وكأنّ شيئا لم يتغير ضم أمه إلى صدره بحنان وحب وحاول كذلك مع أخيه جون المتعجرف الذي تراجع قليلا وبالكاد وضع يده في يده وغادر البلدة يقطر قلبه ألما وحزنا .
في بلدة (جيرسي) كان جو يشتري كل ما يحتاجه من بقالة بالجوار، وكان يتردد عليها يومين كل أسبوع ، ما زال جو وحيدا دون أصدقاء ولكنه كان يعرف كل زبائن المحل ، في الفترة الأخيرة رأى جو فتاة تتردد على المحل لأول مرة ولم يسبق له أن شاهدها من قبل . كانت الفتاة تحمل أغراضا كثيرة بالكاد تستطيع حملها . قال ديفيد : يا لك من فتاة رائعة , أنت لست من هذه البلدة ؟ هذه أول مرة أشاهدك فيها , بالتأكيد أنت بحاجة لمساعدة .
فتقدم جو واستأذنها في حمل بعض أغراضها عنها، رحبت الفتاة بالعرض ورافقها إلى منزلها ، إنه قريب من منزله، وعندما وصل إلى المنزل وضع ما معه من أغراض ثم عاد أدراجه إلى المحل ، شكرت الفتاة جو على مساعدته بابتسامة رقيقة ، كانت تلك الابتسامة أفضل أجر يحصل عليه طيلة حياته، فقد وجد فيها البلسم الذي سيداوي به همومه وجراحه. قال جو وهو يودع الفتاة : الحياة تبتسم لي من جديد , هذه الفتاة تحمل قلبا من ذهب , أتمنى أن نلتقي من جديد .
تكرر اللقاء صدفة عدة مرات بين جو وتلك الفتاة .
وفي إحدى المرات وعندما كان جو يساعدها في حمل أغراضها طلبت الفتاة من جو أن يصعد إلى منزلها ليحتسي فنجاناً من الشاي ووافق فورا بل كان يتمنى ذلك من قبل ، كانت والدة الفتاة في المنزل ورحبت به كثيرا بعدما سمعت من ابنتها عن مساعدته لها أكثر من مره ، كان جو سعيدا وهو يجد من يرحب به ويحترمه وكان سعيدا أكثر بذلك التقارب وتلك الصداقة.
كانت الفتاة واسمها ليزا قد قدمت إلى بلدة (جيرسي) مع والديها قبل أيام قليلة وذلك لأن والدها جاء في مأمورية لبضعة أسابيع وقد قاربت على الانتهاء وسوف يعود إلى بلدة (برانس) حيث يعيش هناك ، أحبت ليزا جو كثيرا ووجدت فيه ما لم تجده في أصدقائها الكثيرين .
كانت ليزا وحيدة والديها وكان والدها يحبها كثيرا ويلبي كل طلباتها، وكان له مركز مرموق في البلدة وعلى علاقة كبيرة بكل المسؤولين فيها .
كان جو يعيش لحظات من السعادة إذا التقى ليزا وتحدث إليها , وهي تبادله بابتسامتها المعهودة كلما التقت به وتكن له الاحترام والتقدير . كانت ليزا تحب في جو بساطته وحبه لمساعدة الآخرين وكذلك الطيبة والتواضع وكان جو يعيش على أحلام تلك الابتسامة كلما كان وحيدا .
وجد جو في ليزا ما لم يجده في أمه وأخته من حنان وحب واحترام ولكنه لم يجرؤ يوما أن يبدي لها رأيه فيها لأنه يعلم أنه في وضع لا يسمح له بمجرد الحديث معها ، فأين هو منها ومن عائلتها ؟ وكان يظن أن تلك المعاملة من ليزا له لا تتعدى كونها علاقة بين سيدة وخادمها .
كان اللقاء الأخير بينهما أمام البقالة ، كان الموقف حزينا وكئيبا لأن ليزا لم تقابله بتلك الابتسامة الشفافة التى تعود عليها , وبالترحيب الذي كان يلاقيه منها مما شجعه على السؤال عن حالها ، كانت الإجابة بمثابة صدمة كبيرة لجو عندما أخبرته ليزا بأنها سترحل مع والديها خلال أيام .
حزن جو حزنا لم يعهده من قبل حتى عند موت والده , فهو سيفقد برحيل ليزا إنسانة عظيمة أشعرته بإنسانيته ومكانته . ورفعت كثيرا من معنوياته . وكان جو يشعر نحوها بعاطفة جياشة كان سيصرح لها لولا الفارق الاجتماعي الكبير بينهما ، لم يتكلم جو ولو بحرف واحد ولكن عيونه ونظراته قالت ما فيه الكفاية ، كانت ليزا أكثر جرأة منه وبدأت في الكلام .
قالت ليزا: يبدو أنك حزين يا جو ، لماذا ؟
قال جو : نعم كثيرا ، لأنك سترحلين ، سأبقى وحيدا .
قالت ليزا : هل تحبني يا جو ؟
قال جو : - متلعثما- أحبك ….أنا…. نعم … نعم …أنا….
قالت ليزا : هل توافق على الزواج مني يا جو .
قال جو : ولكن ……
قالت ليزا : ولكن ماذا يا جو ؟
قال جو : أين أنا ؟… وأين أنت ؟
فأنا فقير جدا يا آنسة .
قالت ليزا : كلنا أبناء تسعة يا جو .
يكفي أنك تملك أخلاقا عالية لا توجد لدى الكثيرين .
قال جو: وأهلك ، والدك ، هل سيوافق .
قالت ليزا : والدي يحبني كثيرا، ولا يرفض لي أي طلب، فأنا ابنته الوحيدة ثم هذه حياتي يا جو ، فأنا قد بلغت السن القانوني .
قال جو: ماذا سأفعل إذن ؟.
قالت ليزا : تعال إلى منزلنا الليلة وتحدث إلى أبي .
كانت تلك الليلة رهيبة جدا في بيت ليزا ، والدها ووالدتها يجلسان بجوار بعضهما وكانت ليزا تجلس بالقرب من جو الذي يجلس في خوف وقلق ولكنه لم يتكلم بل لم يجرؤ على الكلام .
أخذت ليزا تحثه على أن يبدأ في الحديث مع والدها ، أخذ جو يتحدث ببطء شديد ولكنه كان يتلعثم كعادته وللموقف الجلل الذي جاء من أجله ، لم يفهم والد ليزا شيئا مما يقول ، تتدخل ليزا لإنقاذ الموقف ولتنقذ جو مما هو فيه من رهبة .
قالت ليزا : إن جو جاء إليك يا أبتِ ليطلب يدي منك ، لقد اتفقنا على الزواج ، كان جو يومئ برأسه ويحاول الابتسام وهو يسترق النظر إلى والد ليزا .
نهض والد ليزا وصرخ بأعلى صوته في وجه جو متهجماً عليه وقائلا :
إنهض أيها الأبله المعتوه .
كنت أظنك خادما مؤدبا ، لم أتوقع أبدا أنك وقحٌ لتجرؤ على مخاطبة أسيادك والجلوس معهم .
وقف جو وهو يرتعد خوفا ولم ينطق بحرف واحد وحاول الهروب مسرعا إلى الباب .
إعترضته ليزا وقالت لوالدها :
أرجوك أبي ….أنا من طلب منه ذلك ...فأنا أحبه .
قال والد ليزا : أنت !… لابد أنك تمزحين …
بل تريدين أن تسخري من هذا الأبله وتتلاعبين بعواطفه …
اْليس كذلك يا ليزا ؟.
قالت ليزا: لا… هذا ليس صحيحا أبدا، فانا جادة في كل ما أقوله ومتأكدة من عواطفي نحوه .
قال والد ليزا : لقد جننت إذن …لن أسمح بذلك أبدا .
أتفهمين ؟
احتدم النقاش بين ليزا ووالدها بينما هرب جو مسرعا ودموعه تنهمر بغزارة من عينيه حتى وصل إلى غرفته فرمى بنفسه على الأرض يتمتم ويبكي ، ويكلم نفسه .
أنا أستحق أكثر من ذلك …
من أنا لأتزوج ليزا ؟
أين أنا منها ؟
اْنا غبي وساذج فعلا …
والد ليزا محق في تصرفه معي …نعم إنه محق …
كان يحترمني عندما كنت أساعد ليزا …
أما الآن فانتهى كل شيء …كل شيء .
وأخذ يبكي ويندب حظه .
كانت تلك الليلة قاسيه جدا على جو ، وعادت إليه الأيام الماضية والمؤلمة بكل أحزانها وقساوتها إلا أن والد ليزا كان أكثر قسوة وأسلط لساناً .
وفي الصباح وهو خارج من بيته إلى العمل شاهد جو ليزا تقف على ناصية الطريق بانتظاره .
تفاجأ جو …
وابتسمت ليزا له ابتسامتها المعهودة …
كانت ليزا حزينة أيضا تلك الليلة الفائتة لما سببته له من ألم كبير .
قالت ليزا : صباح الخير يا جو .
قال جو : صباح الخير آنسه ليزا .
قالت ليزا : أنا أعتذر لك يا جو عما حدث بالأمس من والدي .
قال جو : لا عليك يا آنسه ليزا ، إنه ذنبي ، أنا الذي تجرأت على طلب يدك .
قالت ليزا : أرجوك يا جو لا تقل ذلك فأنت شاب طيب …
وأنا ما زلت موافقة على الزواج منك .
قال جو: علينا أن ننسى الأمر آنسه ليزا .
قالت ليزا: إسمع يا جو ، بعد غد سنعود إلى مدينه (برانس) وسأبحث لك عن عمل ومنزل أيضاً وسأرسل لك رسالة بذلك وهناك سنتزوج بعيدا عن أبى وسلطته ، وسيكون لنا حياتنا الخاصة والجميلة ، أعدك بذلك يا جو ، أما الآن فوداعا .
قال جو: وداعا آنسه ليزا ….إلى اللقاء .
مرت الأيام والشهور وجو ينتظر تلك الرسالة ، ظن جو أن ليزا كانت تسخر منه كما قال والدها بالرغم من ذلك الإحساس الجميل الذي يشعر به نحوها ، لكنه أحبها فعلا وإن كان ذلك الحب لا يؤدى إلى الزواج منها كما كان يعتقد، و حاول نسيان ليزا وأمر الزواج منها واعتقد أن الأمر انتهى وأخذ يهتم بالعمل والعمل فقط ، وكان يمضي بعض أوقاته في الشوارع والمنتزه القريب من مكان إقامته .
وفي أحد الأيام وصلت جو رسالة من أخيه جون يطلب منه العودة للبلدة فورا ، كانت أمه مريضة جدا ، كان جو يحبها حبا عظيما حتى أكثر من نفسه ومن ليزا أيضا .
عاد جو إلى بلدة(هدسن) مره أخرى، وتوجه إلى منزله كانت جنازة أمه في الطريق، أسرع جو نحو جموع الناس الذين رافقوا جنازة أمه التي اقتربت من المقبرة، أنزلت الجنازة عن أكتاف الرجال لحظه وصول جو إليها ، خرَّ جو راكعا أمام هذا الموقف الرهيب، ولم يتمالك نفسه ولم تقوَ قدماه على حمله، ساعده رجلان على النهوض إلى حيث ترقد أمه ليودعها …أكب جو على أمه يقبلها ويبكي .
كان جو يعلم بأنه يودع البلد كلها بوداع أمه ، لم يبق له فيها شيءٌ بعد رحيل أمه، لقد غادرت أخته جولييت البلدة برفقة زوجها، وجون أكمل دراسته وهو يعمل في بنك صغير في البلدة (هدسن) وهو ليس بحاجة له بعد اليوم ، وهو بطبيعة الحال لا يعيره أي اهتمام ، فكان على جو الرحيل فورا إلى بلدة (جيرسي) .
لقد أثقلت كاهل جو أحداث جسام وحياة صعبة ومريرة رافقته منذ ولادته، كان جو بحاجة إلى معجزة حقيقية تخرجه مما هو فيه من بؤس وشقاء، عاد جو وحيدا والعربة تسير مسرعة نحو بلده (جيرسي) . العربة تعج بالناس والكل مشغول بأمره أو مع الآخرين، كان جو يعيش في عالم آخر ولكنه مجبول بالشقاء. أدرك أن أياما صعبة تنتظره في (جيرسي) خاصة بعد رحيل ليزا ودراسة ديفد في الجامعة.
لم يبق أمام جو إلا أن يعود إلى ممارسة عمله في توزيع الجرائد وقراءتها . كان هناك فراغٌ كبيٌر في حياته ، كان بحاجة ماسة إلى التغيير ، فكر مليا في السفر إلى أي مكان يبعده عن كل ذكرياته الجميلة مع ليزا والحزينة مع عائلته .
وصلت العربة أخيرا وتركه المسافرون جميعا ولم يبق إلا جو الذي أفاق على صوت السائق صاحب العربة وهو يطلب منه النزول ، خرج جو يجر قدميه ببطء شديد وهو يخترق صفوف وجموع الناس، ربما لم يشاهد أحدا منهم ولم يسمع أصواتهم المرتفعة ووصل إلى منزله دون أن يعرف كيف وجد نفسه هناك، ولم ينتبه إلا بعدما سمع صوتا يناديه، وعندما التفت إلى مصدر الصوت رأى والد ديفيد وبيده رسالة يلوح بها في الهواء .
اقترب جو من والد ديفيد وألقى التحية بابتسامة مصطنعة وخجولة، ناوله الرسالة وهو يبتسم أيضا وقال له:
هذه الرسالة لك يا جو إنها من ليزا …
خطف جو الرسالة من يد والد ديفيد وأسرع نحو غرفته دون كلمه شكر، لم يكن جو بطبيعة الحال يقصد ذلك، لكن اسم ليزا جعله يتصرف ولأول مرة بشكل غير لبق .
جلس على السرير مرتبكا ’ فتح الرساله وبدأ يقرأ كلمات من ذهب :
عزيزي جو، أعتذر عن التأخير، فقد واجهت مشكلات كثيرة لأن والدي يراقبني ليل نهار , أخيرا وجدت لنا عملا ومنزلا جميلا , أنا بانتظارك حبيبي أرجو أن لاتتأخر , ستكون إحدى صديقاتي بانتظارك، لا عليك عزيزي، هي ستتعرف عليك وستأخذك إلى المنزل , سأكون بانتظارك على أحر من الجمر .
ليزا .
رقص قلب جو طربا وفرحا وقام على عجل يلملم حاجاته المتواضعة , وودع أهل ديفيد وشكرهم على حسن الضيافة وهرول مسرعا إلى محطة العربات وجلس ينتظر موعد سفر العربة إلى مدينة برانس .
اعتذرت ليزا عن التأخير وكذلك عن استقباله في المحطة خوفا من أن يكتشف والدها أمرها .
كان جو سعيدا جدا بتلك الأخبار وبدأ يرقص ويغني في المحطة لا يأبه بمن حوله، فقد كانت تلك الرسالة المنقذ الوحيد له من عالمه المتشائم وكانت بداية ولادة وعهد جديد له ، وبداية حياة يأمل أن تكون سعيدة ، لقد بددت أحزانه وملأت قلبه بالشوق والحنين للقاء ليزا من جديد .
غادر بلدة جيرسي إلى بلده (برانس) , لأول مرة يشعر جو بمتعة السفر وقلبه ينبض بالحب ، وكان يأمل لو أنه يستطيع دفع عجلات العربة ليصل بسرعة، كان الوقت طويلا والمسافة بعيدة ، لقد كان يظن أن العربة لا تتحرك مع أنه كان يسمع صوت ، كان فكره مشغولا بليزا والحياة الجديدة التي تنتظره، وكان مشهد المحطة يتراوح أمام عينيه بين الفينة والأخرى طوال الطريق.
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 09-08-2011 في 12:39 PM.
مدينة برانس 1805م
وصلت العربة أخيرا وحاول النزول قبل أن تقف العربة تماما، وعندما نزل منها أخذ يراقب الناس المتواجدين هناك، فهو لا يعرف كيف سيتعرف على صديقة ليزا من بين كل الفتيات الموجودات هناك ، وكانت المفاجأة غير طبيعية هذه المرة .
إنها ليزا مع بعض الأصدقاء في الانتظار، وكانت الفرحة عظيمة وهو يشاهد تلك الابتسامة من جديد وتعرف على أصدقائها واصطحبته في الحال إلى الكنيسة ، كان كل شيء معد وجاهز وتم عقد القران وتوجه الجميع نحو المنزل الجديد .
في المنزل المتواضع الذي استأجرته ليزا كان ثمة أصدقاء كثر ينتظرون داخل البيت وقد أعدوا مفاجأة كبيرة و أقيمت حفلة صغيرة ومتواضعة استمرت حتى منتصف الليل . جو يتمتم ـ أنا في الجنة , لقد عوضني الله عن عائلتي بليزا , إنها أعظم إنسانة في العالم , ماذا أريد أكثر من ذلك لقد حقق الله لي أكثر من ما طلبت وتمنيت , يجب علي أن أخدمها بكل ما أستطيع , يجب أن أجعلها لا تندم على زواجها مني أبدا .. أبدا .
أصبحت ليزا زوجة شرعية لجو وشعر جو بأنه يعيش في الجنة ، بيت جديد وزوجة رائعة وأصدقاء يحترمونه , ولم يكن يحلم يوما أن يعيش كما يعيش الآن فكان يحسد نفسه وهو يبذل كل ما يستطيع من أجل ليزا التي وهبته نفسها وضحت بكل أهلها وثروتهم من أجله .
لقد غادرت ليزا بيت والديها دون سابق إنذار، وتركت لهما رسالة تقول فيها إنها ستغادر البلدة إلى المجهول بعيدا عن عيونه وعيون أعوانه ، كان لدى ليزا المال ولكنه كان محدوداً وكان عليها أن تعمل جنباً إلى جنب مع زوجها جو في مصنع للنسيج ، بدأت حياة الزوجين بالتعاون في البيت والعمل . وكان جو في منتهى السعادة مع ليزا التي كانت أكثر سعادة منه وهي تجده يعمل من أجلها بكل حنان وحب .
أما والد ليزا فقد جن جنونه عندما وجد رسالة ابنته الوحيدة تخبره فيها بأنها ستغادر البلدة إلى مكان مجهول، فاعتقد والدها بأنها عادت إلى بلدة (جيرسي) حيث يسكن جو فأرسل خلفها أحد أصدقائه ليعيدها إلى بيتها ولكنه أرسل عيونه خلفها في كل مكان في بلدة (برانس) أيضاً , وعندما علم بأن جو غير موجود في بلدة (جيرسي) وأنه سافر إلى جهة غير معلومة زاد قلقه وخوفه على ابنته فوظف متحرياً خاصاً ليقوم بالبحث عنها وطلب إليه أن يقتل جو إذا ما كانت ليزا معه .
كانت مولي صديقة عزيزة لليزا , وكانت على علاقة وثيقة بليلى التي تعمل في مكتب والد ليزا وكانت مولي تبعث بأخبار والد ليزا أولاً بأول إلى ابنته ليزا عن طريق فتاة تعمل مع ليزا في المصنع وتدعى ماري فكانت تلك الخلية من الفتيات موفقة إلى حد كبير في عملها حيث استطاعت ليزا أن تبتعد عن عيون والدها طيلة تلك الفترة .
كانت ليزا تعلم جيداً بأن والدها عنيد جداً وسيواصل البحث عنها حتى يجدها . وهي على ثقة تامة بأن والدها سيجبرها على الرجوع إليه ويطلقها من جو إذا ما عثر عليهما حتى لو أدى ذلك إلى قتله ، لم تندم ليزا يوماً على اختيارها جو شريك حياتها ، فقد كان يعاملها كسيدة حقيقية ويعتبر نفسه مجرد خادم أمين لها يحرص على راحتها وسعادتها .
بالرغم من سعادة جو وليزا إلا أن تلك السعادة كانت ناقصة فكانا يعيشان في سجن اختياري ولم تتسنّ لهما حرية الحركة، وهذا ما لم تعتده ليزا في حياتها فقررت الرحيل وإختارت العودة إلى بلدة (موندا) حيث مسقط رأس والدتها وأول مدينة رأت النور فيها وترعرعت بين أحضانها .
لقد بعثت ليزا برسالة إلى سيليفيا إحدى صديقاتها هناك وطلبت منها البحث عن منزل مناسب وعمل لها ولزوجها وعندما جاء الرد غادرت ليزا وزوجها بعدما تخفيّا في زي شرقي حتى لا يشك بهما أحد من عيون والدها المنتشرة هنا وهناك .
مدينة موندا 1810م
في مدينة (موندا) وجدت ليزا نفسها مع زوجها وعاشت أحلى أيام عمرها ، وأنجبت طفلتها الأولى وأسمتها سارة ، كانت ليزا على اتصال دائم بصديقتها مولي، لكن الرسالة الأخيرة التي وصلتها من مولي تحمل أخباراً غير سارة فقد علمت أن والدها أوصى بجميع أمواله لجمعيات خيرية وحرم ابنته الوحيدة لأنها خرجت عن طوعه وإرادته .
لم تكترث ليزا لذلك الخبر لأنها تعيش حياتها بكل معانيها مع الرجل الذي أحبته ووجدت فيه ما لم تجده في الآخرين، وبعد خمس سنوات رزقت ليزا بغلام أسمته جورج وبعد سنة أخرى رزقت بغلام آخر أسمته نكسون وما زالت السعادة ترفرف على الزوجين . لأول مرة يدخل جو المقهى ويجلس على طاولة بالقرب من الباب، على الطاولة المقابلة يجلس روبرت وزوجته هيلاري وصديقتهم ساندي , يدخل المقهى كوفي صديق العائله وينضم لهم . قال روبرت : أهلا بك كوفي , كيف حالك؟ قال كوفي : بخير . قال روبرت : أعرفك على ساندي صديقة هيلاري . قال كوفي مرحبا بك ساندي , كيف حالك , أنت جميلة حقا . قالت ساندي : أهلا بك كوفي , أنا بخير , شكرا لك . قالت هيلاري : ساندي تشبهك تماما كوفي فهي من محبي الطبيعة والحيوانات والغابات . قال كوفي : حقا ساندي , هذا يدل على أنك تتمتعين بحس مرهف وجمال روحي . قالت ساندي : شكرا لك , يبدو أنك شاعر أيضا . قال كوفي : أقترح عليكم أن نذهب في رحلة للصيد , فأنا أعرف مكانا رائعا على بعد أيام من هنا , غابة كثيفة الأشجار وكثيرة الطيور والحيوانات . قال روبرت : أنا أقترح عليكم شهر عسل في الغابة الجميلة . قالت هيلاري : سيكون شهر عسل ممتع ورائع , ما رأيك ساندي . قالت ساندي : يبدو أن كوفي لا تعجبه الفكرة . قال كوفي : هذا يعني أنك موافقه . روبرت : لنشرب نخبكما إذا . قالت هيلاري : سأكون وصيفتك ساندي وسأجعل عرسكما مميزا وجميلا . شاهد كوفي جو يسترق النظر إليهما وهو يجلس وحيدا , طلب من جو الإنضمام لهما ومشاركتهما فرحتهما وتعرف جو على الجميع ودعاه كوفي لحضور حفل زواجهما .
الهروب إلى المجهول
لقد انقطعت كل الإتصالات والأخبار بين جو وأخيه جون وأخته جوليت , ولم تعد ليزا تعلم شيئاً عن أخبار والدها بعدما غادرت صديقتها مولي البلدة كانت السنوات العشر التي عاشتها ليزا مع جو بمثابة شهر عسل قصير ما لبث أن عكرته غمامات سوداء لاحت في الأفق .
لقد بدأت الحرب الأهلية تنسج خيوطها السوداء في كل مكان وأخذ الناس يهربون طلباً للأمن , لكن جو وليزا فضّلا البقاء في المدينة إلا أن قساوة الحرب التي اشتد سعيرها أجبرتهما على شد الرحال إلى المجهول كغيرهم من الناس , ولكنهما كانا وحيدين لا يعرفان إلى أين يسيران وترك العنان لجواده يقوده حيث شاء إلى أن قدر لهما الالتقاء بالسيد نورمان .
وذلك بعد ثلاثة أيام من الوحدة والمعاناة والخوف الذي ألمّ بجو وعائلته ، إلتقى بالسيد نورمان وعائلته على مفترق طرق ليؤدي في النهاية إلى المنطقة (نيوفلج) المجهولة بالنسبة لهم ، كان السيد نورمان يستقل مع عائلته عربة رائعة وخلفهما عربتان أخريان تحملان أثاث منزله وبرفقته مساعده آندي .
رحب السيد نورمان بجو ودعاه إلى مرافقته إلى حيث شاء الله لهما أن يصلا ، كان ذلك من دواعي سرور جو وعائلته، فقد شعر بالأمن والاطمئنان مع نورمان ، وكان جو كعادته خدوماً مخلصاً للآخرين . فيما كان نورمان رجلاً بشوشاً ، وحليماً ، وكريماً ، وكان السيد نورمان يستمع باهتمام إلى حديث جو الذي كان يحبُّ الحديث عن نفسه ورحلة حياته الشاقة التي كان يسردها على أسماعه كلما حطّا رحالهما للاستراحة من عناء السفر .
خلال الأيام القليلة التي رافق جو فيها السيد نورمان عرف أنه إنسان بسيط جداً ورجل غير عادي ، ولكنه توقع له رحلة صعبة في هذه الحياة ، ولذلك قررّ مساعدته في ظل ظروف الحرب ، لئلا يتعرض إلى المجاعة أو التهديد من الآخرين مكافأة له على إخلاصه وتواضعه . واصلت القافلة مسيرها حتى وصلت مساء أحد الأيام إلى قرية نيوفلج حديثة العهد والتي تكونت بعد الحرب الأهلية مباشرة . كانت بداية تكوين القرية التي كانت قبل شهور فقط غابة تسرح فيها الحيوانات وتمرح إلى أن جاء إليها العروسان كوفي وساندي برفقة الأصدقاء لقضاء أغرب شهر عسل في ذلك الزمان ......بدأت الحكاية بالصدفة المحضة في مقهى بمدينة برانس عندما التقى كوفي وروربرت .....
شهر عسل في الغابة 1805م من مدينة برانس
كانت العربة جميلة بجمال العروسين، فقد كانت مزينة بأجمل الورود الزاهية الألوان وهي تنساب برفق خلف اثنين من الخيول البيضاء .
كان ذلك في بداية القرن التاسع عشر، العربة تقترب من الساحة التي ستشهد الاحتفال الكبير بالعروسين الشابين حيث الأهل والأصدقاء، وجمع غفير من المدعوين، والمتطفلين، وعشاق الغناء، والطرب، وفرقة موسيقية لإحياء تلك الليلة .
ظهر كوفي ببدلته السوداء ، وعن يمينه عروسه الجميلة ساندي، بفستانها الأبيض الرائع، وكانت ترتسم على شفاههما ابتسامة عريضة، وتبدو في وجهيهما فرحة غامرة بعد أن تم عقد قرانهما في الكنيسة .
توقفت العربة أمام الحشد الكبير ، وترجل العروسان منها وكان في الاستقبال روبرت وزوجته هيلاري ، روبرت من أعز أصدقاء العروسين بل هو الذي جمع بينهما بهذا الزواج، وهو عريف الحفل، والمشرف عليه مع زوجته صديقة ساندي العزيزة .
تعالت الأصوات بالفرح والسرور، وبدأت الموسيقى تصدح بصوت عذب يملأ المكان، فيما توسط العروسان جمع الحضور الذين راحوا يرقصون ويغنون، واستمر الاحتفال حتى منتصف الليل تخلله عشاء وشراب، ثم غادر العروسان إلى بيت الزوجية وسط هتافات المحبين .
كان كوفي ينتمي لعائلة ثرية جعلت تحت تصرفه كل ما يريده ويتمناه، وكان والده يهتم به كثيراّ فلا يمنع عنه أي شيء يطلبه ولا يردعه عن فعل يقدم عليه .
الطبيعة بجمالها وسحرها ومناظرها الخلابة وحيواناتها البرية المختلفة وتغريد الطيور وزقزقتها كل ذلك كان يستأثر باهتمام كوفي منذ صغره ، ولماّ بلغ ريعان الشباب التقى ذات يوم بساندي برفقة صديقه الوفي روبرت وزوجته حيث تعرف إليها ورآها فتاة غاية في الرقة والجمال ، كانت طويلة القامه رشيقة جميله بشكل ملحوظ وكانت عيناها سوداوين لامعتين عامرتين بالحنان وذات شفتين مشرقتين وخدين موردين. ولما عرف كوفي أن لديها الاهتمام ذاته سعى الاثنان لجعل الحلم حقيقة وقررا الزواج .
كان شهر العسل الذي خطط له العروسان غريباً، ومثيراً، وجميلاً، كان رحلة إلى عالم الأدغال حيث الطبيعة بجمالها كما خلقها الله سبحانه، حيث وجّه كوفي الدعوة إلى خمسة أصدقاء متزوجين وكان روبرت بطبيعة الحال من بينهم.
زوّدهم كوفي بكل ما يحتاجونه في رحلتهم من الخيول، والعربات، والطعام، والشراب، وكذلك السلاح
وفي الصباح الباكر من يوم الأحد ، غادرت القافلة المدينة نحو الشرق، وبعد ثلاثة أيام من السير توقف الأصدقاء في وسط الغابة عندما شاهدوا نبع ماء ينساب من حيث تمتد الغابة الكثيفة الأشجار وحيث الطيور تصدح بأعذب السمفونيات مع حفيف الأشجار وخرير المياه .
كانت أشجار الصنوبر العاليه تعانق السماء وأشجار السرو الداكنه اللون وكذلك أشجار الخروب والسنديان كانت تزين الغابه بعشوائية ما يوحي للناظر بالعظمةِ والجمال وكان ثمةَ أشجار متناثرة صغيرة هنا وهناك وكانت الأشجار عند مجرى النهر الصغير قليلة الكثافة فيها متسعٌ من المساحةِ لبناء كوخٍ من أغصان الأشجار الميتةِ واليابسةِ وكانت المياه صافيةً عذبةً تنطلق رشيقة زرقاء وفي قاع النهر كانت الحصى بيضاء لامعة تعكس أشعةَ الشمسِ الوهاجة وكانت أوراق الأشجار المتساقطه المتراكمه منذ زمن أشبه ما تكون بسجاد يفرش الأرض، وفي البعد في قلب الغابةِ كان النهر أكبر وأعمق وكانت ثمةَ أسماك تعيش فيه وفي جوف الغابةِ كانت الأرانب والماعز البريةَ وغيرها تعيش بأمانٍ، وكانت الغابةُ لا تخلو من الثعالبِ والذئاب .
قرر كوفي وأصدقاؤه إقامة مخيمهم بالقرب من بركة ماء صافية عذبة المياه تتوسط جدول الماء القادم من أعلى الغابة ليتعرج في أحشائها حتى نهايتها، وكانت رحلة العمر لكوفي وزوجته بل للأصدقاء جميعاً ، واعتبرت بداية حياة سعيدة وطويلة كما ظن العروسان، ولذلك كان كوفي يخطط لإقامة طويلة وربما دائمة بعدما عشق الاثنان حياة الغابة على طبيعتها .
اقترح كوفي إقامة منزل من الأخشاب، ووجدها الأصدقاء فكرة جيدة، وقد اعتاد الجميع ، ومنذ اليوم الأول مغادرة المخيم، والتجوال في الغابة للتعرف على أسرارها، ولصيد ما يحتاجونه من حيواناتها لأغراض الطعام.
أخذ الأصدقاء بقطع بعض الأشجار الهرمة والمريضة، ثمّ تنظيفها وقصها بأطوال مختلفة حسب الحاجة ، ثم غرسوا بعضها في الأرض ، وشدّوا الأخرى مع بعضها البعض فوق الدعائم الأرضية، ليكون المنزل مرتفعاً عن الأرض وبعيداً عن خطر الحيوانات بأنواعها، ثم ركّبوا سلّماً خشبيّاً يتدلىّ من المنزل إلى الأرض ويسهل رفعه عند الغروب، أو مغادرة المكان فكان منزلاً جميلاً وعملاً رائعاً ثم أحاطوه بسياج خشبي مما تبقى من الأغصان الصغيرة .
لم يكن أحد من الأصدقاء أكثر ابتهاجاً وسعادةً من ساندي بذلك المنزل الجميل، وكأنه بيت العمر، وأمضى الجميع شهراً كاملاً من المتعة والإثارة، ثمّ قرر روبرت وأصدقاؤه العودة إلى المدينة وكان ذلك بمثابة صدمة قوية لكوفي وزوجته، لأنهما قررا البقاء في الغابة .
وعد روبرت وهيلاري بالعودة لزيارتهم في أقرب وقت ممكن ليزودوهما بما يحتاجانه من أغراض إلا أنّ سحابة سوداء قاتمة خيمت على سماء كوفي وزوجته بعد قرار الأصدقاء الرحيل، وفي الصباح الباكر غادر الأصدقاء المخيم وتركوا خلفهم حزناً عميقاً وألماً كبيراً، وكان ذلك اليوم صعباً بل من أصعب الأيام التي مرّت بهما طيلة حياتهما حتى أن اليأس والتشاؤم ظهر على ساندي بعدما أصبحا وحيدين في تلك المنطقة المهجورة والبعيدة .
بعدما لاحظ كوفي ذلك الوجه الحزين خشي أن تضعف ساندي، وتقرر اللحاق بالأصدقاء ، فحمل سلاحه ورفع السلم وانطلق ممسكاً بيد ساندي عبر الغابة مبتعداً عن المخيم وأخذ يغنيّ وينشد بصوت مرتفع ليبعد شبح الخوف عنه أولاً وعن ساندي ثانياً وما هي إلا لحظات حتى أخذت ساندي تشاركه الغناء .
كان الزوجان يمضيان يومهما في الصيد، والتعرف على أماكن جديدة من الغابة المحيطة بهما وفي المساء وبعد تناول العشاء يعكفان في منزلهما يتبادلان الحديث ويكتبان مغامراتهما اليومية، وهكذا أمضى الزوجان مدّة قاسية بعض الشيء نظرا لعدم وجود أناس يختلطون بهم في الغابة، كان كوفي يأمل أن يعود صديقه روبرت لزيارته ، كما وعده إلاّ أن الأيام تمضي وكأن صديقه نسي أو تناسى ذلك الوعد الذي يعيش على أنغامه كوفي وزوجته .
مساء أحد الأيام ، ولدى عودة كوفي وزوجته إلى المنزل شاهدا حصاناً أمام منزلهما ، وعربة في زاوية الحديقة ، فنظر إلى ساندي وقال لها :
انظري، لا بد أنه حصان روبرت وتلك عربته أليس كذلك ؟
قالت ساندي : نعم ، إنه هو بالتأكيد .
أسرع الاثنان نحو المنزل، ولكن بحذر شديد خشية ألاّ يكون روبرت من في المنزل ، وعندما وصلا إلى بوابة السياج المحيط بالمنزل صاح كوفي وبندقيته موجهّة إلى حيث الباب :
مَنْ هناك؟ مَنْ في المنزل ؟
كان كوفي ينظر إلى باب المنزل ، وكانت ساندي تختفي خلف العربة ، وإذا بالباب يفتح وروبرت وزوجته هيلاري يخرجان مبتسمين فرحين ، فصاح كوفي مخاطباً ساندي :
إنهما روبرت وهيلاري ……
تعانق الاثنان وتعانقت الاثنتان وغمرت كوفي وساندي فرحة لم يسبق لها مثيل ، وكأنهما لم يفترقا إلا للحظات قليلة .
أحضر روبرت معه أشياء كثيرة، خاصة الذخيرة التي يحتاجها الجميع للصيد والحماية، لقد تذكر روبرت وهيلاري تلك الأيام الرائعة في أحضان الطبيعة، لذا قررّا العيش فترة طويلة من الزمن إلى جانب كوفي وساندي.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن خلافات حادة بين كبار المسؤولين في البلاد حتى عجز الجميع عن إيجاد حل وسط يرضي كافة الأطراف، بل وأعطى بعضهم الضوء الأخضر لأتباعهم بإطلاق النار، لإرهاب الآخرين وحملهم على الرضوخ لمطالبهم وشروطهم .
لم يستطع أحد إيقاف فوهات البنادق، ولا حتى السيطرة على الشعب وأفراد الجيش الموالي لهذا الطرف أو ذاك مما أدى إلى اشتعال النيران في كل مكان , فأصبحت شيئاً فشيئاً حرباً شاملة ومريرة في طول البلاد وعرضها حيث كل طرف يحاول جاهداً إثبات وجوده وإسماع صوته وتحقيق طموحاته على جثث أتباعه وأشلائهم الممزقة في كل الميادين .
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 09-08-2011 في 12:50 PM.
الرحلة الشهيرة :1830م
في أحد أيام الربيع وفي وقت الظهيرة والشمس في كبد السماء ترسل بأشعتها الدافئة الحنونة في كل اتجاه وصل البلدة رجل يمتطي حصاناً أسودَ جميلاً وخلفه فارسان مسلحان يرافقانه، كان كل فارسٍ في عربةٍ تجرها الخيول لتنقل العمال إلى المزرعه، كان المقهى كالعادة يعج بالزبائن في ذلك الوقت ككل يوم والتقى الفارس برجل في الشارع فقال له:
ألا يوجد في هذه البلدة مقهى يا سيدي ؟
قال الرجل : بلى، إنه على بعد أمتار من هنا؛ تابع السير إلى الأمام وستجده أمامك فصوت الرجال في المقهى يملأ الشارع .
قال الرجل : شكراً لك أيها السيد .
تابع الرجل ومرافقوه السير إلى المقهى حيث ترجلوا عن خيولهم ودخلوا المقهى تحت نظرات الرجال واستغرابهم، فتقدم فيليب صاحب المقهى ورحب بالرجل ورفيقيه وأجلسهم على طاولة جانبية بالقرب منه فيما هدأت زوبعة الرجال المعتادة .
قال الرجل : قهوة ساخنة لو سمحت .
قال فيليب : في الحال يا سيدي .
أسرع فيليب وأحضر ثلاثة فناجين من القهوة وكأس ماء بارد وقدمها لهم وهو ينتظر أن يعطيه الفارس ثمنها فوراً على غير ما اعتاده من رواد المقهى .
قال الرجل : ما اسم هذه البلدة أيها السيد .
قال فيليب : اسمها (نيوفلج) يا سيدي .
قال الرجل : لم أسمع بها من قبل .
قال فيليب : نعم إنها بلدة جديدة أنشئت بعد نشوب الحرب والجميع هنا ينتظر نهاية لها ليعود إلى بلده .
قال الرجل : إذن ستنتظرون طويلاً قبل أن يحدث ذلك .
قال فيليب : هذا متوقع يا سيدي .
قال الرجل : هل يوجد هنا فندقٌ أو نزلٌ لنرتاح فيه ؟
قال فيليب : لا يا سيدي ….. ولكن بإمكانكم التوجه إلى العمدة وستجدون لديه كل ما تريدون .
قال الرجل : هلا تكرمت وأخذتنا إليه ؟
قال فيليب : بكل سرور يا سيدي….
ثم طلب فيليب من جو إصطحاب الفارس ومن معه إلى العمدة .
قال الرجل : شكراً لك أيها السيد .
ترك الرجل مبلغاً من المال على الطاولة حيث دهش فيليب لكرمه لأن المبلغ يكفي لثمن كل ما تناوله الرجال في ذلك اليوم .
استقبل العمدة ضيوفه ورحب بهم أجمل ترحيب وقدم لهم الطعام والشراب ثم سألهم عن حاجتهم.
قال الرجل :
عندي يا سيدي مزارع على مسيرة خمسة أيام إلى الجنوب من هنا حيث وصلت إلى بلدتكم هذه عن طريق الصدفة وجئت أبحث عن عمال ليعملوا معي عاماً كاملاً .
قال العمدة : ألا يوجد لديك عمال الآن ؟
قال الرجل : عندي عشرون رجلاً تنتهي خدمتهم بعد أيام .
قال العمدة : عفواً أيها الرجل ألا يوجد في بلدتكم عمال ؟
قال الرجل : مزارعي يا سيدي بعيدة عن البلدة وأنا أحب أن أستخدم عمالاً من أماكن أخرى لأتعرف على أناس جدد وعلى تقاليدهم وعاداتهم .
قال العمدة : كم رجلاً تريد ؟
قال الرجل : أريد عشرين رجلاً وسأدفع لهم أجراً جيداً .
كان المبلغ الذي سيدفعه الفارس مغرياً ويعادل ثلاثة أضعاف ما يأخذه العامل في البلدة ولما حسب العمدة أجرة العشرين رجلاً في عام كامل وجدها كبيرة جداً فزاد اهتمامه بالأمر.
قال العمدة : كيف سيعيش الرجال ؟
أقصد من سيقدم لهم الأكل والشرب والمنام ؟
قال الرجل : كل شيء معد وجاهز يا سيدي وهم لا ينفقون شيئاً من أجرتهم أبداً، فلدي مكان للنوم وسأقدم لهم الطعام والشراب .
قال العمدة : خذوا راحتكم يا رجال واعتبروا هذا بيتكم وغداً سننظر في الأمر.
طلب العمدة من اللجنة الاستشارية الاجتماع به في بيته بعيداً عن الرجل للبحث في طلبه وقال لهم :
أيها السادة……لقد جاء هذا الرجل لينقذ البلدة من الفقر الذي تعانيه ويحقق لنا حلماً طالما تمنيناه، فما يأخذه عشرون رجلاً في عام يعتبر مبلغاً كبيراً نستطيع أن نقيم به مصانع ستوفر العمل للجميع، والعام ليس مدة طويلة يا سادة وسيمضي بسرعة .
بعد نقاش وافق الجميع على إرسال الرجال مع الرجل وطلب العمدة من مساعده إبلاغ جميع الرجال المتواجدين في مثل هذا الوقت في المقهى وانتظار العمدة لأمر هام .
وقف العمدة أمام الرجال وأبلغهم بطلب الرجل وما قرره المجلس الاستشاري، وشرح لهم منافع هذه الرحلة الهامة للبلدة، وطلب من الذين يستطيعون العمل تسجيل أسمائهم لدى مساعده، وأن عليهم التواجد في ساحة البلدية صباح الغد.
في اليوم التالي علم العمدة أن تسعة عشر رجلاً فقط سجلوا أسماءهم للعمل ولم يكن جو من بينهم ، تذكر كوفي مساعد العمدة أن جو لا علم له بالأمر ولم يحضر اجتماع الأمس فأرسل في طلبه وأخبره بوجود فرصة ذهبية له ليتخلص من العمل لدى أخيه في المزرعة .
لم يتردد جو في الموافقة على العمل مع الرجال، بل كان فرحاً جداً بهذه الفرصة التي ستغير من وضعه المادي وربما الاجتماعي ويحقـّق حلمه وحلم ابنته ساره.
استعرض الرجل صاحب المزرعة الرجال العشرين ووافق عليهم وكتب العمدة اتفاقية مع الرجل حدد فيها كل الشروط المطلوبة، وبعد التوقيع عليها أعطى الرجل نسخة منها واحتفظ بنسخة في خزانة البلدية، وطلب من الرجال الاستعداد في اليوم التالي صباحاً للسفر إلى مزارع الرجل، وشجعهم على تجهيز الطعام والماء تكفي لمدة خمسة أيام هي مسافة الطريق .
أعطى الرجل مبلغاً من المال تحت الحساب لكل رجل من الرجال تساعدهم في تجهيز أنفسهم وعائلاتهم وأعطاهم عنوان مزارعه وقال لهم :
أيها الرجال سنسافر غداً في قافلة واحدة، ولكن إذا حدث وأن افترقنا لأي سبب من الأسباب فالعنوان لديكم وتستطيعون الوصول إليه بسهولة .
كان الفرح الذي عمّ البلدة وخاصة العمدة لا يوصف وتمنوا أن تمضي هذه السنة بسرعة ليعودوا إلى البلدة وليقوموا بعمل المشاريع التي تحتاجها البلدة والتي ستوفر فرص عمل لهم .
كان جو وزوجته من أكثر الناس سعادة بهذه الفرصة التي طالما تمنياها، وانتظراها ليخرج من سجن أخيه جون صاحب المزرعة التي يديرها لحسابه ولا يناله من أرباحها إلا اليسير، بالرغم من فرحة جو إلا أنه حزن حزناً شديداّ على فراق زوجته وابنته، لأن سارة تعرضت لتحرش الشقي ستيف بها مرات ومرات وخشي عليها من المضايقة أثناء غيابه ولذلك أوصى العمدة بها وبعائلته. طلب جو من ابنته سارة العناية بأمها وبأخوتها وبالعمل بالمزرعة لحين عودته فقال لها:
أنا أعتمد عليك يا ابنتي، فأنت الآن المسؤولة عن العائلة والمزرعة وأرجو أن تكوني قوية وشجاعة حتى عودتي، وبعد ذلك سنقوم بعمل مشروع خاص بنا بعيداً عن المزرعة ومشاكلها، بنى جو قصوراً في الهواء وأحلاماً وردية جميلة لتعيش عليها ابنته وزوجته حتى عودته من السفر.
عيّن العمدة جاك مسؤولاً عن الرجال طيلة مدة غيابهم عن أرض الوطن، وأعطاه نسخة من الاتفاقية، اجتمع الأهالي في ساحة البلدة لوداع الرجال وكانت تلك الرحلة حالة فريدة وغريبة على أهالي البلدة، صعد الرجال العربات بعد وداع الأهل والأحبة وكان في مقدمتهم الرجل صاحب المزرعه وفي مؤخرة القافلة الحارسان والجميع على أهبة الاستعداد للانطلاق .
كان الفرح الذي ساد البلدة بالأمس قد تلاشى وخيم عليها جوّ من الحزن الكبير وهم يودعون رجالهم إلى رحلة مجهولة وطويلة، فيما أخذ الرجال ينشدون أغنية الوداع بصوت حزين بكت لها النساء والصغار وحتى الرجال وأنشدوا قائلين :
لا تحزنوا
لا تحزنوا لا لا لا تحزنوا
فنحن مسافرون للعمل
ونحن جنود سنجدد الأمل
لا تحزنوا لا تحزنوا
سوف نعود للوطن
سنبني مصانع
ونعمر مزارع
سنربي أجيالاً تقود الوطن
لا تحزنوا لا لا لا تحزنوا
حتماً سنعود
ونبني ونقود
فنحن فرسان وجنود
وسنجدد الأمل
لا تحزنوا لا لا لا تحزنوا
مسافرون للعمل
وسنعود بالأموال ليزدهر الوطن
لا تحزنوا لا لا لا تحزنوا
كانت القافلة تبتعد عن العيون وصوتها الحزين يختفي شيئاً فشيئاً وما زال الأهل يحدقون نحوها بعيون حزينة ودموع كثيرة حتى خشي العمدة على الجميع، فقال لهم بصوت مرتفع:
أيها الاخوة ….. أيتها السيدات
نحن جميعاً حزينون ونتألم لفراق الرجال….
وهم أيضاً أكثر حزناً منا، ولكن علينا أن ندرك أن لكل شيء ثمناً وأن ازدهار البلدة ورقيها يتطلب منا التضحية والصبر، واعلموا أن الأيام ستمر مسرعة وأنا على يقين أننا سنقف هنا وفي هذه الساحة قريباً لنستقبل الرجال عند عودتهم سالمين، وسنحتفل في ذلك اليوم ليكون عيداً لنا وبداية جديدة لهذه البلدة التي ستشهد تطوراً كبيراً ينتهي بعده الفقر .
علينا جميعاً أن ننسى الحزن الذي أراه في عيونكم، وأن نعيش على أمل عودتهم وعلينا التعاون حتى تنتهي هذه السنة على أحسن حال، ولنعود الآن إلى بيوتنا وأعمالنا لأن الحياة ستستمر دون شك .
كانت لخطبة العمدة أثر بالغ في نفوس الجميع، وغادروا الساحة إلى أعمالهم وبيوتهم، ثم جمع العمدة المجلس الاستشاري وبحث معهم وضع البلدة في غياب الرجال الذين تركوا خلفهم أعمالهم وعائلاتهم، وفي نهاية الاجتماع أعدت قائمة بالعائلات التي تحتاج للمساعدة وأعد برنامج لتوزيع المتطوعين بأجرة رمزية للقيام بمساعدة تلك العائلات، وكلف المجلس المساعد كوفي بالإشراف على تنفيذه .
بالقرب من مبنى البلدية أقام العمدة مبنى الكنيسة وبجانبها منزلاً لصديقه الأب حنا الذي سيرعى الكنيسة، وكان العمدة يدفع مبالغ رمزية للرجال الذين يقومون بأعمال البناء وخدمة البلدية والكنيسة، كما خصصت اللجنة مدفناً للموتى بعيداً عن البلدة وذلك بعد أن توفي أول رجل مسن يسكن البلدة، شيعه الكثيرون في موكب مهيب ثم قام الجميع بالعزاء لعائلته.
قبل أن تنطلق القافلة أخبر الرجل صاحب المزرعة الرجال والذي أطلق عليه الرجال الزعيم , بنظام خاص خلال رحلة الذهاب، وقال لهم :
أيها الرجال ……. كما تعلمون فنحن بحاجة لخمسة أيام حتى نصل إلى المزارع وسيكون لنا وجبتان من الطعام الأولى في الصباح قبل أن ننطلق والأخرى عند الغروب عندما نخلد للنوم وعليه فنحن بحاجة إلى رجلين في كل وجبة لإعداد الطعام، و تعلمون أيضا فنحن لا نستطيع النوم دون حراسة فأنا بحاجة لرجلين منكم ليتناوبا مع الحارسين في الحراسة الليلية فيحرس اثنان في النصف الأول من الليل واثنان في النصف الثاني لنكون بأمان من الوحوش واللصوص .
قسم الزعيم الرجال إلى مجموعات وعرف كل منهم دوره في إعداد الطعام والحراسة وهكذا واصلت القافلة رحلتها دون متاعب في جو عائلي وكأنهم في رحلة ترفيهية .
كان اليوم الثالث من أجمل الأيام وأمتعها فعندما وصلت القافلة ظهيرة ذلك اليوم إلى غابة جميلة شاهد الرجال غزالاً كبيراً يرعى على مسافة منهم فتوزع الرجال للإحاطة به من كل الاتجاهات و بدأت مطاردته من زاوية إلى أخرى، فكلما هرب إلى جهة معينة وجد رجلاً أمامه، حتى استطاع أحد الحراس قتله، فاستمتع الرجال بوجبة دسمة من لحم الغزال المشوي على لهيب النار وتحت ظلال الأشجار، ثم واصلت القافلة مسيرها .
وفي المساء خيموا لقضاء ليلتهم في منطقة مقفرة لا نبات فيها ولا حيوان تسمى (برمودا )، وبعد تناولهم طعامهم تسامروا قليلاً بالنكات والمغامرات ثم استسلموا للنوم وبقي أحد الحراس مع جو للحراسة تلك الليلة. كان جو يتحدث مع زميله ويستفسر منه عن الأعمال التي سيقوم بها في المزرعة وعن الحياة مع الفارس ليكون مستعداً للعمل بعد أيام قليلة .
بعد ساعتين من السهر ذهب الحارس لقضاء حاجته، أراد جو أن يطلع على الاتفاقية التي كتبها العمده والموجودة مع جاك الذي كان مستغرقا في النوم كباقي الرجال، مد جو يده إلى جيب جاك وأخرج الورقه وأراد أن يقرأها، وإذا بالحارس يدخل فخبأها في جيبه. أخبر جو زميله بأنه سيذهب لقضاء حاجته. كان الليل مظلماً وهادئاً والجميع مستغرقون في نوم عميق والحارس يجلس أمام شعلة من النار وهو يحدق فيمن حوله حتى بدأ النعاس يتسلل إلى عينيه فغاب عن الوجود واستسلم للنوم . إختفاء جو
وفي الصباح وبعد أن أشرقت الشمس وشعر الرجال بأشعتها الدافئة تحنو على وجوههم وتدغدغ وجناتهم نهض الواحد تلو الآخر، وعندما رأى الزعيم أن النار لا وجود لها وأن الجميع كان مستغرقاً في النوم غضب غضباً شديدا، وصاح بهم وأخذ يعنفهم على إهمالهم في الحراسة وما سيترتب عليها من موت ونهب وسلب وطلب الحارس المكلف بالحراسة في النصف الثاني من الليلة .
قال الزعيم : أين أنت يا مارك .
قال مارك : نعم يا سيدي أنا هنا .
قال الزعيم : كيف تنام وتتركنا فريسة للحيوانات واللصوص …ماذا دهاك يا رجل .
قال مارك : عفوا يا سيدي فأنا أناوب في النصف الثاني من الليل .
قال الزعيم : نعم أعلم ذلك ولهذا أسألك .
قال مارك : ولكن يا سيدي لم يوقظني أحد وأنا لم أستيقظ .
قال الزعيم : كيف ذلك …
لماذا لم توقظه يا تود ؟
قال تود : أنا أعتذر يا سيدي .
ولكني لم أشعر بنفسي كيف غفوت وذهبت في النوم ؟
قال الزعيم :هذا استهتار بأرواحنا .
كيف تنامان أنتما الاثنان ؟
أين زميلك في الحراسة ؟
قال تود : إنه السيد جو .
قال الزعيم : جو لم أرتح له منذ البداية، ولا أدري كيف وافقت عليه ؟
أين أنت يا جو ؟
لم يجب أحد .
أين جو يا رجال؟
لم يجب أحد .
أصاب الرجال الفزع والخوف، ونهضوا جميعا وهم يحملون أسلحتهم وأخذ الرجال يتمتمون ويستفسرون عما جرى لجو ؟ وكيف حصل له ذلك ؟
وعمت الفوضى ودب الرعب في قلوبهم، وتفقد كل منهم الآخر خوفا من أن يكون هناك من اختفى غير جو ثم صاح الزعيم بهم حتى هدأت الأصوات، ولم تسمع إلا همسا، ولكن ما زالت عيونهم تجول في كل مكان حولهم .
قال الزعيم : أنت يا تود ألم يسهر معك جو منذ البداية ؟
قال تود : نعم يا سيدي كان معي …
تحدثنا معا أكثر من ساعتين ثم ذهب لقضاء حاجته ويبدو أنه تأخر ولم أشعر بنفسي كيف استسلمت للنوم.
قال الزعيم : هذا يعني أنه لم يعد .
اندهش الجميع مما سمعوا …
تسلل الخوف والرعب إلى قلوبهم وعندما رأى الزعيم علامات غير مريحة على وجوه الرجال قال لهم :
ليذهب كل خمسه رجال في جهة للبحث عن جو أو أية آثار تدل عليه، وبعد ساعتين من الآن يعود الجميع إلى هنا لنبحث في الأمر .
قال الزعيم : يا تود في أيّ اتجاه ذهب جو ؟
قال تود : من هنا يا سيدي نحو الغرب .
توجه الزعيم مع حراسه في الاتجاه الذي أشار إليه تود وتتبع آثار أقدام جو حتى وصل إلى نهايتها، وجد الزعيم أمرا غريبا، لقد اختفت آثار أقدام جو، ولكن هناك دائرة صغيرة يوجد فيها آثار أقدام غريبة وكأن معركة وقعت فيها وتنتهي الآثار بعدها .
عاد الجميع إلى مكان المخيم ولم يعثر أحد على جو أو على آثار تدل عليه، أخبر الزعيم ما شاهده للرجال ولكنه لم يعط تفسيرا على ذلك، طلب الزعيم من الرجال مواصلة السفر لئلا يتأخروا عن الموعد .
لم يحتمل الرجال تلك المصيبة التي حلت بهم، وثار الجميع ضد الزعيم وطالبوه بالبحث مرة أخرى وإلا فإنهم سيعودون من حيث أتوا إن لم يجدوا جو حيا أو ميتا .
عرف الزعيم بأن الموقف صعب للغاية، وأنه إذا لم يتصرف بحكمه فإنه سيفقد الرجال لا محالة خاصة وأنهم على حق، وأن ما حدث لجو يمكن أن يحدث مع أي واحد منهم فقال لهم :
أيها الرجال: علينا أن نكون واقعيين ونفكر بعقل قبل أن نتصرف تصرفا يمكن أن نندم عليه طويلا، عودتكم أيها الرجال إلى البلدة دون جو مصيبة حقيقية ستؤدّي إلى بلبلة في البلدة خاصة وأنكم لا تملكون ما تقولونه للعمدة ولا لأهل جو أو لأهل البلدة، والبحث عنه مرة أخرى مضيعه للوقت، فلقد بحثنا عنه في كل مكان ولم نعثر له على أثر .
قال جاك : لقد صدقت يا سيدي، ولكن لا بد من تفسير لما حدث، يجب أن نعرف الحقيقة .
قال الزعيم : إن ما حدث لجو أحد هذه الأمور يا ساده؛ إما أنه ابتعد كثيرا عن المخيم ولم يهتد أثناء الليل، وهذا ما سيؤدي به إلى اللحاق بنا أو العودة إلى البلدة. وإما أن هناك طائرا ضخما قد أخذه وطار به إلى مكان بعيد وهو أمر محتمل جدا، والآثار التي شاهدناها جميعا تدل على ذلك.
أيها الرجال: علينا أن نواصل السير وأن نكون يدا واحدة ولا نفترق أبدا مهما كانت الأسباب .
وجد الرجال أن كلام الزعيم منطقي ومعقول وقرروا مواصلة المشوار مع الزعيم .
بعد يومين وصلوا إلى منطقه المزارع ودهش الرجال عندما شاهدو قطيع الأبقار والأغنام الهائل يغطي مساحة شاسعة من الأرض وكذلك مساحات من الأرض المزروعة بالنباتات، رحب الزعيم بالرجال وأكرمهم واستراح الجميع لمده يومين من عناء السفر ثم تعرف كل منهم على المهام التي سيقوم بها في المزرعة . سنة عصيبة
استلم الرجال ملابس العمل وأحذيته البلاستيكية الطويلة بعد أن تركها من كان يعمل قبلهم وبدأت رحلة العمل. منذ اللحظة الأولى شعر الرجال بخيبة أمل كبيرة بعدما شاهدوا المكان المخصص للنوم، فهو أشبه ما يكون بحظيرة كبيرة بجانب مزرعة الأبقار وفيه فرشات ووسائد وأغطية قذرة، وهناك في زاوية المكان أوانٍ معدنية عفا عليها الزمن سيستعملها الرجال للطبخ والغسيل والحمام .
كانت رائحة الأبقار تسيطر على المكان وأيقنوا بأنهم وقعوا في المصيدة منذ البداية وهم ينظرون في بعضهم البعض بعيون حيرى وحزينة .
جاء الزعيم الذي كان ينتظر الرجال خارج المسكن وعندما تأخروا دخل عليهم، فوجد وجوهاً غير راضية ويائسة، فأراد أن يضع حداً فاصلاً للرجال وصاح بهم قائلاً :
لينتبه الجميع إلي …
أولا: منذ هذه اللحظة فصاعداً لا أريد مناقشات ولا حكايات ولا كلاماً غير مجد فقد بدأ العمل يا رجال وعليكم القيام بأعمالكم بكل أمانة وإخلاص، والامتثال والطاعة للمراقبين والحراس .
ثانياً: لكم وجبتان من الطعام يومياً الأولى في الصباح قبل العمل والثانية في المساء بعد العمل .
ثالثاً: هناك مكان خاص للاستحمام مرة واحدة في نهاية كل أسبوع وعلى الجميع الالتزام بذلك اليوم ولا أريد هدراً للماء فهو قليل وغالي الثمن أيضاً .
أيها الرجال … يبدأ العمل من شروق الشمس وينتهي بغروبها، كل من يقصر في واجبه سيتحمل تكاليف ذلك. عمل عمل ولا مجال فيه للمجاملة.
والآن الرجاء من الجميع الانصراف مع المراقب ليتعرف كل واحد منكم عمله.
لقدبدأت رحلة العمل المضني في رعي القطيع في النهار، وحلب الأبقار في المساء، وتوزيع الأعشاب لها في الأماكن المخصصة في حظائر الأبقار ليلاً، وكل عدة أيام يتم تنظيف تلك الحظائر وتنقل مخلفات الأبقار إلى مكان خاص قرب الأراضي الزراعية .
كان الرجال يعودون من العمل عند غروب الشمس، فيتناولون وجبة الطعام وما يكاد أحدهم يصل إلى فراشه حتى يلقي بنفسه أرضاً ويستسلم للراحة والنوم العميق من شدة التعب ولا يشعر بنفسه إلا ومراقب العمل يصرخ عليه في الصباح ليقوم ثانية إلى عمل يوم جديد .
طلب الزعيم من الرجال أن يقوم اثنان منهم بالتناوب لحراسة الماشية كل ليلة بعد عودته من العمل في المساء مما أثقل همومهم وزاد وضعهم النفسي والمعنوي والصحي سوءاً وأصبح الواحد منهم يتمنى الموت على تلك الحياة القاسية والمؤلمة .
لقد نسي الرجال رائحة المسكن القذرة، ورائحة الفراش الكريهة، وكأنهم تأقلموا على ذلك الوضع، والحقيقة أنهم كانوا يبحثون عن الراحة والنوم في أي مكان يجدونه، فلا وقت لديهم ليهدروه في الكلام والعتاب واللوم، وقد جاء سماح الزعيم لهم بالاستحمام يوماً واحداً في الأسبوع منحة شخصية لم تسبق بأي طلب منهم .
كان ذلك اليوم مقدساً ينتظره الجميع بفارغ الصبر كأنه يوم عيد، لأنه سيريحهم من تلك القذارة المتراكمة على أجسامهم خلال أسبوع كامل من الشقاء والتعب، وما أن يشعر الواحد منهم بالنشاط والحيوية بعد الاستحمام حتى تتلاشى من جديد في أول يوم عمل.
تكالب على الرجال العمل الشاق والغربة القاتلة والطعام القليل، وأصبحت حياتهم صعبة للغاية حتى أن الجميع ندموا على مجيئهم إلى ذلك المكان، وظن البعض أن جو كان أكثر حظاً منهم مهما كانت أسباب إختفائه حتى لو كان الموت نفسه .
تأكد الرجال الذين جاءوا يلهثون وراء المال تاركين خلفهم الأهل والأحبة والوطن بأن المال ليس كل شيء في هذه الحياة ، وأن هناك أشياء كثيرة أسمى وأجمل تستحق البقاء، ما زال الرجال في بداية الطريق إلا أن الضعف أخذ من أجسامهم قليلاً فبدأت هممهم تخبو وبدأ الجميع يتذمرون من الحالة التي وصلوا إليها .
شعر السيد جاك وهو ليس بأحسن حال منهم بما يفكر به الآخرون وهو يعلم أن لا مجال للتراجع والعودة فأخذ يشجعهم على الصمود ومواصلة العمل وقال لهم :
أيها الاخوة …… أيها الرجال :
ماذا أصابكم ؟
أين حماسكم للعمل ؟
أين رغبتكم بامتلاك المال؟
إن البداية دائماً صعبة، وما دمنا قد بدأنا المشوار فلا بد من مواصلة السير فيه وها قد بدأنا التأقلم على هذه الحالة وما هي إلا سنة واحدة …..
بل عدة شهور وسنعود للوطن وللأهل .
أيها السادة… يجب أن يتطلع الجميع إلى ذلك اليوم الذي سنعود فيه إلى الوطن وقد أصبح لدينا المال، واعلموا أن الأهل في الوطن ينتظرون بفارغ الصبر ذلك اليوم، فلا تخيبوا آمالهم، وليعمل الجميع لذلك اليوم السعيد، استطاع جاك أن يشحذ الهمم ويرفع المعنويات، فأخذ الرجال يفكرون في يوم اللقاء ويوم العودة إلى الوطن بعيداً عن المتاعب التي يلاقونها .
إستمر الرجال في العمل وأصبح الحديث بينهم موعد العودة وذلك اللقاء الذي سيجمع بينهم وهم يخططون لتلك اللحظات التي سينتهي بها الشقاء وتبدأ أيام السعادة والرفاه واقترب العيد .
العيد التعيس
كان العيد في هذه السنة غير طبيعي ، وهو الأول الذي ظن الرجال بأنهم سيحتفلون به خارج الوطن وسيتعرفون على عادات وتقاليد جديدة، ربما سينقلونها إلى الوطن ـ ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ـ ففي صباح يوم العيد قام الرجال مبكرين على غير العادة وارتدوا ملابسهم الفاخرة وتجهزوا للمشاركة في احتفالات الأعياد، وتوقع الجميع أن يرافقوا الفارس إلى البلدة التي لم يتشرفوا بدخولها حتى تلك اللحظة ليمضوا أوقاتاً سعيدة ومرحة تنسيهم بعض المعاناة والتعب .
بعد أن تجهزوا وأوشكوا على الخروج حضر مراقب العمل فوجدهم على غير عادتهم فظن بأنهم سيغادرون البلدة هاربين متذكراً ما كان يسمع منهم من تضجر وشكاوى يومية لا تنتهي، فأسرع إلى إشهار السلاح في وجوههم قائلاً :
إلى أين أيها الرجال ؟
هل من خدمة أقوم بها ؟
قال جاك : لماذا ترفع السلاح في وجوهنا أيها السيد ؟
قال مراقب العمل : أراكم مستعدين للمغادرة ….
أم أقول للهرب .
قال جاك : الهرب …..
لقد ذهبت بعيداً بتفكيرك يا سيدي…..
أليس اليوم يوم عيد .
قال المراقب : عيد …..
ماذا تعني ؟
قال جاك : لقد جهزنا أنفسنا للذهاب للبلدة ( بلدتكم ) للاحتفال بالعيد .
قال المراقب : هكذا إذن …..
والأبقار ؟
والأغنام ؟
وبقية الأعمال من سيقوم بها ؟
فالأبقار لا تستطيع الاحتفال وحدها بالعيد يا سادة .
هيا…. بدلوا ملابسكم وارتدوا ملابس العمل فوراً فقد تأخرنا على الأبقار ….
ربما ستغضب منا …. أليس كذلك ؟
قال جاك : هذا يوم العيد ويحق لنا أن نحتفل بهذه المناسبة كباقي الناس .
قال آخر: هذا ليس عدلاً يجب أن نحتفل بالعيد .
قال آخر: إما أن نحتفل بالعيد أو أن نترك العمل ونعود للوطن .
قال آخر: نعم يجب أن نحتفل، ليس كل الأيام نقضيها في العمل حتى يوم العيد يجب أن نرتاح يوماً وليكن هذا اليوم …..
إنه عيد أيها الرجال .
قال المراقب : هكذا إذن….
فليخرج الجميع فوراً وكل من يتخلف سأطلق عليه النار….
هيا بسرعة تحركوا…..
الجميع إلى الخارج ……
فلكم مفاجأة حسنة ….
نعم سيعمل الجميع بهذه الملابس الجميلة فيحق للأبقار أن تحتفل وأن ترى مناظر حسنة في هذا اليوم .
أجبر المراقب جميع الرجال على العمل بملابسهم الجديدة التي جاءوا بها من البلدة وكان يوم العيد أسوأ يوم يعيشه الرجال منذ مغادرة البلدة، وعند عودتهم من العمل إلى مكان النوم بكوا على حالهم وتمنوا الموت على تلك الحياة المهينة .
أجمع الرجال على ترك العمل وفسخ العقد والعودة إلى الوطن بعد أن أصبحوا في وضع لا يحسدون عليه وتدهورت صحتهم وتحطمت معنوياتهم بعد سبعة شهور من المعاناة، إلا أن أميرهم جاك نصحهم بعدم المجازفة والاستمرار في العمل حتى النهاية، لأن الزعيم لن يسمح لهم بالعودة لعدم وجود بديل لهم، وبعدما أصر الجميع على مواجهة الزعيم وطلبوا منه فسخ العقد غضب غضباً شديداً وهدد باستعمال القوة معهم وقال لهم:
أنا لم أرَ في حياتي رجالاً مثلكم أبداً؛ منذ أول يوم وأنتم تتذمرون، ليعلم الجميع بأنه ليس عندي عمال غيركم يقومون بالعمل، وها أنتم تطلبون مني القضاء على حيواناتي ومزارعي ولن أسمح بذلك أبداً ، عليكم العمل حتى نهاية السنة لأحضر بدلاً منكم واعلموا بأنني لن أسمح لأي واحد منكم بمغادرة المزارع حياً أبداً قبل ذلك التاريخ مهما كانت الأسباب، ثم انصرف الزعيم وتركهم في حيرة من أمرهم .
علم الرجال أنهم في وضع خطير، وأن عليهم الاستمرار بالعمل مع هذا الزعيم اللئيم حتى شك بعضهم بأنهم سيعملون مجاناً ولن يحصلوا على أجرتهم بعد الانتهاء من العمل، وأنه سيحتال عليهم، وسيعودون إلى البلدة فارغي الأيدي كما خرجوا منها، وأن جهدهم سيذهب أدراج الرياح .
كانت الأيام الأخيرة دهراً بأكمله، كانوا يحاولون دفع تلك الأيام بكل ما أوتوا من قوة، وأقسم الجميع متعاهدين على ألا يعودوا إلى هذا العمل مرة أخرى مهما كانت الأسباب والمغريات، بل وأقسموا على أن لا يغادروا البلدة بعد اليوم من أجل العمل في أي مكان آخر.
في اليوم الأخير طلب الزعيم من الرجال العودة مبكرين، استحم الجميع وارتدوا الملابس الجديدة، واصطحبهم الزعيم إلى البلدة واحتفل معهم تلك الليلة وأكرمهم واعتذر لهم عن كل ما بدر منه أو من رجاله وقال لهم بأن العمل يتطلب الحزم لتستمر المزرعة في العطاء، ووزع عليهم أجورهم وأمضى الجميع سهرة جميلة حتى تناسى الجميع كل ما حصل لهم خلال تلك السنة .
في الصباح تهيأ الرجال لرحلة العودة، وودعهم الزعيم وأوصاهم بعدم الفرقة وأن يكونوا يداً واحدة حتى الوصول سالمين إلى الوطن، بالرغم من قسوة الزعيم إلا أنه كان صادقاً وأوفى بوعده، وكان كريماً أيضاً فقد أعطى للسيد جاك مبلغاً من المال ليدفعه لزوجة جو الذي تأكد الزعيم من موته في ذلك اليوم الذي فقد فيه . تعلم الرجال من الفارس أن الانضباط في العمل ومتابعة الأمور مهمة جدا، وأن القائد عليه أن يكون حازما في اتخاذ قراراته وطلب تنفيذها الأمر الذي سيساعدهم في أعمالهم عند عودتهم إلى البلدة. رحلة العودة
غادرت القافلة مزارع الزعيم عائدة من حيث أتت والكل في فرحة غامرة، وقد ودعوا أيام العذاب والألم وحصلوا على المال وهم يغنون بصوت مرتفع، ولكن بعض الرجال أصابهم الخوف وخشوا من عدم الاهتداء إلى الطريق أو أن يصيب أحدهم ما أصاب جو .
أكد جاك للجميع بأنه وضع إشارات في كل مكان جلسوا فيه مع الفارس عند قدومهم وسيهتدون بها إلى الطريق وأنه لا حاجة للخوف، وطلب منهم أن لا يبتعدوا عن بعضهم البعض كما أكد للجميع بأن العمدة والأهالي ينتظرون قدومهم بفارغ الصبر.
كان العمدة قد أخبر الأهالي بموعد عودة الرجال وطلب منهم الاستعداد لاستقبالهم والاحتفال بعودتهم حتى يكون يوماً مميزاً، خرج العمدة ومساعده وعددٌ من الأهالي لاستقبال الرجال في مدخل البلدة وبقوا حتى غروب الشمس ولكن لم يصل أحد في ذلك اليوم، كرر العمدة ومن معه الخروج عدة أيام إلا أن الرجال لم يصلوا كذلك .
قلق العمدة وجمع المجلس الاستشاري للتشاور في الأمر، وقرروا إرسال بعثة استطلاعية من ستة رجال للبحث عنهم، وأعطاهم عنوان مزرعة الفارس وطلب منهم الحيطة والحذر.
لقد ظن العمدة أن ذلك الرجل ــ الزعيم ــ احتال عليهم واستعبدهم، وربما حدث لهم مكروه بعد ذلك، ولأنه من شجعهم على الذهاب للعمل كان قلقاً و حزيناً جداً، وكانت المفاجأة القاسية عندما شاهد الأهالي حزينين وقلقين وهم ينتظرون أمام ساحة البلدة يطلبون تفسيراً لهذا التأخير، استقبل العمدة الأهالي وخطب فيهم بكل ثقة مع أنه غير مقتنع بما يقول، فلا بد من تهدئة الوضع حتى تظهر الحقيقة؛ قال لهم :
أيها الأحبة،……
علينا أن نتحلى بالصبر، فلم يبق إلا القليل، واعلموا أن الطريق طويل وربما وجد الرجال أن من المناسب بعد عمل عام كامل الاستراحة بعض الوقت، وعلينا الدعاء لهم بالعودة سالمين والاستعداد لاستقبالهم قريباً هنا في هذه الساحة .
غادر فريق البحث البلدة متجهاً نحو الجنوب، فكان يواصل السير طيلة اليوم حتى المساء ثم يخيم ليلاً حتى الفجر، وبعد ثلاثة أيام وبينما كان الفريق يستريح بجانب الطريق في المساء لقضاء تلك الليلة شاهد أحدهم غباراً كثيفاً قادماً من الجنوب فأسرع وأخبر الفريق بذلك فاختبؤوا خلف تله صغيرة مجاورة .
لقد حالت سرعة الجياد وكثافة الغبار من التعرف على الرجال إلا أن هذه القافلة استقرت في مكان غير بعيد، فقد نزلوا عن ظهور الخيل لقضاء تلك الليلة، وشاهد أعضاء الفريق بعض الرجال يجمعون الحطب ويشعلون النار وهم يرددون أغنية شعبية، ظن فريق الاستكشاف أنهم رجال البلدة ولكنهم ومن أجل الحيطة والحذر دفعوا باثنين منهم خلفهم حتى إذا ما اقتربا من القافلة من جهة الغرب درجة كافية ليستطيعوا التعرف عليهم ركضوا نحوهم فرحين وصاحوا بهم حمداً لله على سلامتكم، فقد كانوا أبناء بلدتهم.
نهض الرجال وهم يشاهدون اثنين من أقربائهم يركضان نحوهم فرحين، فاستقبلوهم بسعادة كبيرة ولوّحوا لباقي الفريق ليلحقوا بهم، وجلس الرجال يهنئون بعضهم البعض ويستفسرون عن أخبار الأهل والعمل، وتناول الجميع الطعام وسهروا تلك الليلة مستمتعين بما سمعوا من أخبار الأهل.
وفي الصباح الباكر أسرع اثنان من فريق البحث إلى البلدة ليخبروا العمدة والأهل بسلامة كل الرجال وأنهم على وشك الوصول منهين بذلك ما كان فيه الجميع من قلق وخوف جرّاء تأخرهم. كانت البلدة في الساعات الأولى من نهار ذلك اليوم مليئة بالنشاط والحيوية وكأنها خلية نحل استعداداً لاستقبال الرجال في ساعات ما بعد الظهر حيث خرج موكب العمدة إلى مشارف البلدة فيما تجمع الآخرون في الساحة الرئيسية بانتظار الأحبة بقلوب شغفة وعيون حيرى تراقب كل حركة قادمة نحو الساحة .
وما هي إلا لحظات حتى وصل الموكب يتقدمهم العمدة ومساعده وهم يصيحون بأعلى صوتهم مرددين :
عدنا عدنا بعد غياب عدنا عدنا يا أحباب
وبعد اليوم ما في غياب أبداً أبداً يا أحباب
فرحة وصرخة ألم
كان الجميع يحدقون بالرجال وهم ينزلون من العربات لينخرطوا بين الأهل، وكل منهم يبحث عن زوجته وأبنائه أو والديه وإخوانه في منظر مدهش، وعندما يعثر أحدهم على ذويه يبدأ العناق والسلام بحرارة الصيف تطفئها قبلات الأحبة وتهدئ من حرارتها، في حين كان العمدة ومساعده وآخرون يراقبون هذا المنظر الجميل، وما هي إلا لحظات حتى بدأ الجميع بالرقص والغناء وكل واحد منهم مشغول بأهله وأحبته ونسي أو تناسى كل من حوله، وفي تلك اللحظة زلزل صوت عنيف أرجاء الساحة وأصم الآذان وهز المشاعر واقشعرت له الأبدان .
ساد الصمت فجأة كل من في الساحة، وكأن على رؤوسهم الطير، واتجهت الوجوه نحو مصدر الصوت وإذا بامرأة تقف وحيدة في آخر الساحة وقد التفت يد ابنتها اليافعة حول عنقها، وصغارها يتمسكون بأطراف ثوبها، وهي تبكي بحرارة ولوعة، ثم صرخت من جديد بصوت حزين…..
أين زوجي ؟
أين زوجي ؟
كانت تلك المرأة هي ليزا زوجة جو، وكان صغارها يبكون خائفين وجلين، وابنتها ساره أشدهم رعباً وخوفاً. انزعج العمدة وغضب أشد الغضب، ولام نفسه لأنه لم يسأل عن الجميع….
نسي العمدة في فرحة اللقاء السؤال عن الرجال واحداً واحداً، فالفرحة التي لقيها في وجوههم جعلته يظن أن الجميع بخير، ما جعله يطمئن كل الاطمئنان.
تقدم العمدة بوجه عابس وسأل بغضب:
أين جو يا رجال ؟
لماذا لم يأت معكم ؟
ما الذي أخّره عنكم ؟
كان العمدة وجميع أهل البلدة خاصة ليزا زوجة جو وابنته ساره ينتظرون الإجابة من الرجال. طأطأ الرجال القادمون رؤوسهم ولم يجب أحد ….
لا يوجد لدى أحد منهم الجواب الشافي على سؤال العمدة .
ما زال الصمت يخيم على الساحة …
ما زال العمدة وزوجة جو بل وأهل البلدة كلها ينتظرون جواباً شافياً، لأن الجميع اعتقد أن مكروهاً أصاب جو. أعاد العمدة السؤال مرة أخرى، ووجه سؤاله للسيد جاك الذي أمّره على الرجال، وقال له :
أين جو يا سيد جاك ؟
وما الذي حدث له ؟
تقدم جاك نحو العمدة وواجه الأهالي، وقال :
سيدي العمدة :
سيدتي ….. أيها الاخوة ،
إنه لأمر محزن جداً أن نعود إلى البلدة دون السيد جو، لأن ما حصل له أمر لا يصدق أبداً ……
وأخذ جاك يروي ما حدث لجو بالتفصيل، والجميع بين مصدق ومكذب وبين خائف وحائر.
ما كادت ليزا زوجة جو تسمع بالحكاية حتى صرخت بعنف …..
آه….آه... آه
ثم وقعت أرضا فاقدة الوعي، وما زال صغارها يتمسكون بأطراف ثوبها، وابنتها سارة تبكي بلوعة وحرارة .
أسرع الدكتور سكوتي لنجدتها وابنتها، وتم إسعافها ثم نقلت إلى منزلها والنسوة من حولها يحاولن التخفيف عنها ويرجونها أنْ ترحم صغارها ونفسها وأنْ تتجمل بالصبر .
تعجب العمدة من تلك الرواية الغريبة والمثيرة وقال للرجال والحضور :
كنا نأمل أن نحتفل بعودتكم في هذا اليوم السعيد، إلا أن فقدان أحد الرجال أصابنا جميعا بالحزن والأسى؛ لذلك نلغي الإحتفال، وليعد الجميع إلى منازلهم، فالرجال لا شك أنهم تعبون من السفر، ثم قال للسيد جاك:
لقد أفزعتمونا أيها الرجال بتأخركم عن الموعد المحدد .
قال جاك : لم نتأخر يا سيدي أبدا فهذا اليوم هو موعد وصولنا حسب الاتفاق فنحن وبعدما أنهينا العمل غادرنا المزرعة فورا ولنا منذ تلك اللحظة خمسة أيام بالتمام هي مسافة الطريق .
فكر العمدة قليلا ثم تبسم وقال :
يبدو أنني أخطأت في الحساب لأنني لم أضف هذه الأيام الخمسة فترة العودة .
قال جاك : لا باس يا سيدي فجميعنا نخطىء ..
ثم أخرج من جيبه منديلا وأعطاه للعمده قائلاً :
تفضل يا سيدي هذا المبلغ من المال أرسله الزعيم إلى زوجة جو لتستعين به .
قال العمدة : يا له من رجل كريم …
أرجو من جميع الرجال التواجد في البلديه بعد ثلاثة أيام لبحث أمور كثيرة . حلم غريب :
(الشعور والإحساس الذي ينتاب الإنسان أحياناً أثناء نومه وأثناء حلمه يبقى تأثيره بعد ذلك وربما يتحقق هذا الحلم ولو بعد حين .
هذا ما كان من أمر سارة إبنة جو تلك الليلة، فقد أفاقت من نومها في صباح اليوم التالي والابتسامة ما زالت على شفتيها وملامح الفرحة ظاهرة على وجنتيها، أرادت ساره أن تنقل تلك الابتسامة الموشحة بالحزن لوالدتها الثكلى، وأن تبشرها بما رأت في ذلك الحلم، التفتت سارة إلى والدتها وإذا بها على الهيئة التي تركتها عليها قبل أن تنام حين غلبها النعاس وأعياها البكاء .
حزنت سارة على والدتها وحاولت التخفيف عليها لتنام بهدوء، لكن الأم أفاقت على لمسة ابنتها الرقيقة في حين ما زالت خيوط دموعها فوق خديها، ولشدة حرارتها بدت كأخاديد حفرت على وجنتيها، مسحت سارة دموع والدتها المنهارة والمنهكة بكل رقة وحنان، وألقت بنفسها في أحضانها لعلها تعطيها جرعة من الثبات والصبر وحتى تشعرها بأنها معها قالت لها :
يجب أن تكوني قوية يا أمي ويجب أن يكون لديك الإيمان بأن والدي ما زال حياً وأنه سيعود بالتأكيد .
قالت الأم : لا تضحكي عليّ وعلى نفسك يا سارة فالأمر واضح جداً، فلو كان أبوك حياً لعاد مع الرجال ولو افترضنا أنه أخطأ الطريق أثناء الذهاب لعاد إلينا بعد هذه المدة الطويلة، فأين هو إذن .
لا شك …..
قاطعتها سارة وقالت :
لا يا أمي …..
أرجوك لا تكملي …..
لا تقولي ذلك أبداً لقد قلت لك إنه ما زال حياً …..
لقد أخبرني بنفسه هذه الليلة، نعم لقد جاءني أبي هذه الليلة وأخبرني أنه حي وكنت سعيدة معه ولقد أفقت من نومي وأنا أبتسم فرحة وهو يودعني .
قالت الأم : ماذا ؟
تقولين إنه حي….. وجاءك الليلة …..
ولكن كيف ؟
لماذا لم يأت إلي ؟
قالت سارة : يبدو أنه رآك متعبة ونائمة فجاءني وقال لي :
أنا ما زلت حياً يا ابنتي، أخبري والدتك أن تكف عن البكاء لأني سأعود إلى البلدة يوماً ….
لقد رأيته على هيأته التي سافر بها قبل عام وكان يبدو عليه التعب والإرهاق وهو يرقد في سرير جميل وقلت له :
نريد أن نطمئن عليك يا أبي أخبرني أين أنت الآن ؟
قال : لا أدري يا ابنتي ولكني بخير .
قلت له : لماذا تركت الرجال وذهبت وحدك ؟
قال : لا يا ابنتي لا تقولي ذلك ….
فأنا لم أتركهم بإرادتي لكن تلك الليلة أصابني ألم حاد اخترق أوصالي ومزق صدري، فوقعت على الأرض من شدة الألم، وبدأت أتخبط كأني دجاجة مذبوحة، لقد حاولت الصراخ حتى ينجدني أحدهم ….ولكني لم أستطع …
وبعد ذلك أحسست بأيدٍ تمتد إلي وتسعفني فشعرت بالراحة، ثم حملتني الأيدي معها وطار أصحابها بي في السماء وأنا معهم الآن .
قلت له : يجب أن تعود يا أبي فنحن بحاجة إليك …
نحن نحبك يا أبي .
قال لي : وأنا أيضا يا ابنتي …
سأعود إليكم …سأساعدكم …هذا وعد .
كانت الأم تستمع لابنتها باهتمام بالغ وكأنها فتاة صغيرة تستمع لحدّوثة جدتها قبل أن تنام، فعاد لها البشر ثم قالت لابنتها : أمتأكدة من ذلك يا ابنتي ؟
هل أخبرك بأنه سيعود وسيساعدنا ؟
قالت سارة نعم يا أمي وأقسم على ذلك.
فجأة سمعت الأم صوت الباب يدق …
كان هناك من يقف على الباب ويستأذن بالدخول ..
إنه العمدة ومعه زوجته جاءا للاطمئنان على عائلة جو ومساعدتهم، وكانت زوجة العمدة تحمل كيسا من المواد التموينية …
رحبت ساره بالضيوف وأمها تجلس حزينة تتوق أن تسمع من العمدة كلاما يريح أعصابها ويخفف عنها حزنها وألمها .
قال العمدة : أرجو يا سيدتي أن تكوني بخير وأن تتجملي بالصبر فنحن جميعا معك …
ثم أخرج المنديل وقدمه لزوجة جو، وقال لها : تفضلي يا سيدتي هذا المبلغ من المال أرسله لك السيد جو مع الرجال .
أخذت الدهشة والاستغراب الأم تتوشحها بابتسامة حزينة حين رأت داخل المنديل نقوداً حقيقية، وهذا ما تنبأت به سارة قبل قليل ما يؤكد لها بأن جو ما زال حيا .
قالت ساره بفرح : ألم أقل لك يا أمي أن أبي سيبعث مالاً وسيعود إلينا ؟
أرأيت ؟
التفتت زوجة العمدة وهمست في أذنه قائلة له :
ما الذي قلته لها يا رجل ؟
قال العمدة : هل أخطأت في شيء ؟
قالت زوجته : نعم…
لقد أخبرتها بأن زوجها من بعث المال …
ألا تراها سعيدة بهذا الخبر ؟
لقد سرت زوجة جو بما سمعته من العمدة فقالت له :
هل قلت يا سيدي بأن زوجي هو من بعث المال لنا ؟
قال العمدة : عفوا سيدتي …
لم أقصد ما تفهمينه بالضبط …
لكن الزعيم صاحب المزرعة هو الذي بعث بالمال بالنيابة عن زوجك، ولقد أخبرني الرجال بأن زوجك ضل الطريق أثناء الليل ولا بد أنه سيعود قريبا .
قالت ساره : نعم يا سيدي …لقد أخبرني هذه الليلة بأنه سيعود .
استغرب العمدة ما سمعه من ساره وقال لها :
أخبريني يا ابنتي ماذا قال لك السيد جو ؟
بدأت ساره تروي للعمده وزوجته ما شاهدته في الحلم تلك الليلة والعمده يستمع لها بشغف كبير .
وبالرغم من أن العمدة لديه إحساس قوي بأن جو قد مات إلا أنه وجد في حلم سارة ما يبدد ذلك .
فال العمدة : الحمد لله، هذه أخبار جيدة وتبشر بخير، إن ذلك شعورنا جميعا… كوني مطمئنة يا سيدتي غدا سأجتمع مع الرجال وسنبحث معهم أمر زوجك والبحث عنه .
قص العمدة ذلك الحلم على الرجال واللجنة الاستشارية …
أكد الرجال بعدما سمعوا كلام العمدة بأن ذلك ما حصل بالضبط مع جو، وما أكده لهم الزعيم، وأن ذلك حقيقة بل وأصبح لديهم ثقة بعوده جو. وانتشر الخبر سريعا في البلدة كلها وأصبح حديث الناس .
بعد عودة الرجال من السفر اجتمع معهم العمدة وأطلعهم على القرارات التي اتخذها المجلس الاستشاري للبلدة بتطويرها وتحديثها . لقد تعلم أهل البلدة الزراعة بشكل جيد لكن البعض من الرجال الذين هم أصحاب صناعة وخبرة من قبل أخبروا العمدة قبل سفرهم نيتهم بناء مصانع في البلدة بعد عودتهم لتساعد أهل البلدة في العمل ولرفع مستوى البلدة.
كان المجلس قد أوصى بإقامة عدد من المشاريع الصناعية الهامة التي يريدها الرجال والتي ستساعد في تشغيل أكبر عدد من أهل البلدة، اتفق الرجال على تشكيل مجموعات لتشكل كل مجموعة شركة خاصة لإقامة ثلاثة مصانع، وأوصى المجلس بمنح تلك الشركات قطع أراضٍ متساوية قرب المنطقة الزراعية .
بدأت الشركات بإقامة الأبنية اللازمة، وطلب العمدة من كل شركة إرسال مندوبٍ عنها ليرافقه في السفر إلى العاصمة لشراء الآلات اللازمة لتلك المصانع.
غادر العمدة والوفد المرافق البلدة متوجهين نحو العاصمة، تم شراء تلك الماكينات وبقي المرافقون في العاصمة للتدريب عليها حتى يستطيعوا العمل عليها عند تركيبها في مصانعهم، ذلك أن الماكينات التي اشتراها العمدة أكثر حداثة مما تعود عليه الرجال من قبل .
قام العمدة بتفقد بعض أعماله هناك، لم يفكر العمدة بإقامة مصانع له في البلدة لأنه يعمل في التجارة فقط، وفكر بأن يعود قريبا الى مكان إقامته الدائم .
عاد العمدة ومرافقوه إلى البلدة ومعهم مهندسون ليقوموا بتركيب تلك الماكينات والإشراف عليها حتى تعمل، وذلك حسب الاتفاق مع الشركة الصانعة، كانت فرحة الأهالي كبيرة بعودة العمدة والرجال واستقبلوهم استقبال الأبطال .
شهور قليلة وإذا بالمصانع تعمل بشكل جيد، وأخذ التطور يمتد بالعمران شيئا فشيئا واتسعت البلدة وبدأت ملامح الرضى والسعادة تظهر على وجوه الجميع، كانت الحرب قد انحسرت في أماكن محددة ولاحت في الأفق بوادر الانفراج .
كانت ليزا تعيش مع ابنتها وولديها دون رجل يحميهم ويعتني بهم، ما ولّد لديها شعورا بالوحدة، وبالرغم من أن إحساسها بمجيء الوقت الذي يعود فيه زوجها صار يقينا، فقد خشيت أن تذهب المزرعة من أيديهم لأنها تعرف جون على حقيقته، فهو الذي لم يكترث لهم ولم يسأل عنهم طيلة تلك المدة التي غاب فيها جو لأن همه الوحيد هو المال؛ وما الذي يمنع شخصا بجشع جون من أن يأخذ المزرعة منهم ليعطيها لأي رجل يعتمد عليه ويدفع له مالا أكثر؟
كانت ليزا زوجة جو تحسب ألف حساب لأبناء جورج الذين تعمدوا مضايقة ساره في كل مرة تذهب فيها إلى المزرعة، وخشيت أن يستغل ستيف غياب جو ليزداد تهديده لابنتها، لقد تعودت ساره مساعدة والدها في المزرعة وحافظت عليها جيدا أثناء غيابه، وهي تعي جيدا ما يقلق والدتها فوضعت نصب عينيها هدفا واحدا ألا وهو الاحتفاظ بالمزرعة فقد كانت تسعى بكل قوتها لتطويرها وزيادة إنتاجها .
كانت الفترة الماضية كفيله بجعل ساره فتاة قويه وناجحة، وقد ساعدها في ذلك بقاء الزبائن على علاقة جيدة معها، ولكن ساره لم تستطع دفع المبالغ المترتبة عليها لعمها في الأوقات المحددة مما حدا بعمها إلى مطالبتها أكثر من مرة بتسليم المزرعة له، وطالبها إن رفضت بزيادة الأجرة السنوية، ولم تكن هذه المرة الأولى التي يطالب فيها جون باسترجاع المزرعة، فقد سبق له وأن طالب جو مرات عديدة .
لم تصدق ساره ما سمعته من عمها، كانت ساره تتوقع أن يمد لها عمها يد العون والمساعدة إذا لزم الأمر خاصة في المحنة التي تمر بها العائلة بعد غياب والدها، حاولت ساره إقناع عمها بالعدول عن مطلبه إلا أنه أصر على ذلك .
بقي الأمر سرا ولم تطلع ساره والدتها على الأمر، فقد تذكرت أنها سمعت عمها من قبل يطالب والدها بذلك وسمعت أصواتهم ارتفعت، ولكنها تذكرت أيضا أن والدها هدد بكشف أمر عمها لزوجته حتى تراجع عن مطالبته، ولكنها لم تعلم ما هو الأمر الذي هدد به والدها حتى تستطيع استخدامه ضد عمها .
قررت ساره محاولة تهديد عمها لعل ذلك يجدي نفعا، فقامت بزيارة عمها في بيته ، كانت تربط ساره بزوجة عمها علاقة حميمة جدا، وكانت جيسي تحب ساره كثيرا وكأنها ابنتها، فطلبت من عمها تخفيض الأجرة لها أمام زوجته قائلة له :
تعلم يا عم بأن والدي كان يعمل أحيانا عند الكثير من الناس ليكسب بعض النقود؛ لتساعده في مصروف العائلة إلى جانب عمله في المزرعة، أما أنا فوحيدة ولا أستطيع العمل، فالمزرعة تأخذ كل وقتي وجهدي وربما لا تكفي للأنفاق علينا، وأنت يا عم في مقام والدي يجب أن تساعدنا حتى يعود أبي .
قال العم : أنت يا ساره فتاة جميلة ورقيقة ويجب أن تبقي في البيت لتحافظي على جمال بشرتك فالأرض بحاجة إلى رجل يعمل بها .
قالت ساره : وكيف سنعيش يا عم ؟
قاطعتهم جيسي وقالت : يا سارة عمك كوالدك كما قلت، وسينفق عليكم حتى عودة أبيك وسيكون ذلك دينا يسدده والدك بعد عودته .
كان جون يحاول مقاطعتها وهو مغتاظ جدا من تدخل زوجته في الأمر .
قال جون صارخا : ماذا تقولين يا جيسي ؟
هل جننت يا امرأة ؟
كيف سأنفق علينا وعليهم وأنت تعلمين أن الوضع صعب و لا يحتمل .
قالت سارة : شكرا لك يا زوجة عمي، أنا لا أقبل يا عم أن أستقبل والدي عند عودته بالديون حتى لو كانت منك أنت، إنني قادرة على العمل والإنفاق على أمي وأخوتي .
قال العم : أنا لم أقصد يا ساره، ولكن يجب على أمك أن تعمل، أمك يا ابنتي لم تحرك ساكنا .
قالت سارة : وماذا تريد من أمي أن تعمل ؟
قال العم : خادمة في البيوت، فستجد الكثيرين يفتحون لها أبوابهم، فأمك جميلة وما زالت شابة .
قالت سارة : لا تكمل يا عم فأنا لا أسمح بذلك أبداً .
احتدم النقاش بينهما وقاطعت زوجة العم الجلسة قائلة :
أرجو المعذرة … سأعد لكم كوبا من الشاي .
قال العم : سمعت أن والد أمك رجل غني جدا، لماذا لا تبحث عنه أمك وتعيشون في قصره .
قالت سارة : اسمع يا عم، لم أرد التحدث أمام زوجتك لأنني أخشى عليك فما زلت أعتبرك كوالدي وسمعتك تهمني بالتأكيد ونحن لسنا بحاجة لأحد حتى لو كان جدي .
قال العم : عن ماذا تريدين أن تتحدثي، فأنا ليس عندي أسرار أخفيها عن أحد .
قالت سارة : لقد أخبرني والدي قبل سفره بكل شيء، وإنْ لم تقبل نصف المبلغ فأنا مضطرة لإبلاغ زوجتك بذلك وأنت وشأنك .
قال العم وجلاً : لا..لا..
أنا كنت أمزح معك يا ابنتي وليبق كل شيء على حاله .
قالت ساره: بل سأدفع لك نصف المبلغ فقط وإلا…
دخلت زوجة العم جيسي وهي تحمل إبريق الشاي وبعض الكعك على صينية من النحاس .
قال العم : كما تريدين يا ابنتي فإن طلبات زوجة عمّك أوامر، وأنا لا أستطيع رد أي طلب لها .
قالت جيسي : هذا من دواعي سروري يا ساره.. الحمد لله أنكم اتفقتم أخيرا .
قالت سارة : شكرا لك يا زوجة عمي ولك أيضا يا عم .
زفت ساره البشرى إلى أمها وأخبرتها بأن عمها كان كريما معها، وقبل بنصف الأجرة وطلب منها الاحتفاظ بالأرض، فرحت الأم كثيرا بذلك وهي غير مصدقة لما يحدث، بقيت الأم تعمل في المنزل وتربي الصغار وبقيت ساره تعمل في المزرعة والأمور على خير وجه .
عاشت الأم على أنغام ذلك الحلم وهي تقنع نفسها بأن زوجها سيعود هذا اليوم، وفي المساء وعندما ينقطع الأمل بعودته تقول لنفسها إذن سيعود غدا وسأنتظره، وهكذا تمر الأيام مسرعة وسارة تتحمل المتاعب في المزرعة بمفردها .
حزن السيد جورج كما حزن كل أهل البلدة على ما حدث لجو، وطلب من أبنائه عدم التعرض لسارة والعمل على مساعدتها كلما استطاعوا ذلك، طلب السيد جورج من زوجته زيارة عائلة جو وتقديم ما تستطيع من مواد تموينية لهم .
زواج عكس التقاليد :
ما حدث لجو غير الكثير في البلدة، فالعداء والخصام بين ستيف وسارة انقلب إلى صداقة وتعاون. نسيت سارة كل ما مضى من ستيف، وأخذ ستيف يساعد ساره في المزرعة باستمرار حتى بدا كأنه شخص أخر تماما بل صديق حميم ومخلص .
كان ستيف منذ البداية وبعدما أصبح شابا مراهقا يحب ساره ويتودد لها إلا أن والدها جو رفض ذلك الشعور وأيدته ساره، وانقلب هذا الحب إلى معاكسات ومضايقات ليبقى على اتصال معها بشكل أو بآخر، وقد آن الأوان ليحيا هذا الشعور وهذا الحب بعد تلك الصدفة التي منحته إياها غرائب القدر، تقبلت ساره هذا الاهتمام وأخذت تبادله ذلك الشعور والتودد وتعمقت بينهم أواصر المحبة يوما بعد يوم حتى انتهى بحكاية حب عذري صادق ذاع صيته في البلدة .
وجدت ساره في ستيف ما يعوضها عن والدها، ويخفف عنها أعباءً جساماً أثقلت كاهلها مدة طويلة، وهي الآن بحاجة لرجل تعتمد عليه وتحتمي به وتستظل بظله فينتهي هذا الشقاء الذي لازمها حتى قبل سفر والدها. كان العيد على الأبواب وكانت الفرحة بانتظار ساره والعائلة .
اتفق ستيف وساره على الزواج، وقرّرا أن يكون يوم العيد موعدا للزفاف حتى تحتفل البلدة كلها بهذا الزواج، أرادت ساره أن يكون يوم زواجها مميزا لم يسبق للبلده أن شاهدت مثله من قبل، واشترطت ساره على ستيف أن يعيش معها في بيتها حتى عودة والدها لتستطيع الاهتمام بوالدتها وإخوتها، كما طلبت منه أن يتعهد أمام العمدة بذلك كونه سيكون وكيلا عنها بدلا من والدها الغائب .
كانت تقاليد البلدة تقضتي أن يجهز العريس بيت الزوجية، وأن تقوم العروس بتجهيز نفسها من ملابس وزينة، طلب العمدة من ستيف أن يقوم بكل تكاليف الزواج خاصة وأنه سيعيش مع ساره في بيتها وسيكون فردا من الأسرة، في اللحظة التي وجد ستيف تجاوبا من ساره طلب من والده الاستقلال والعمل لحسابه حتى يتمكن من الزواج .
طلبت ساره من ستيف أن يشتري لها قماشا أبيض يكفي لعمل ثوبين لها وبعض اللوازم الأخرى، وقامت بالتعاون مع زوجة عمها بتجهيز ثوب الزفاف، وكل ما يلزم لتكون عروسة الموسم بلا منازع.
في يوم العيد ومنذ الصباح كالعادة تمّ تجهيز الساحة الرئيسية بالطاولات وبدأت النسوة بإحضار ما لذ وطاب من الطعام والشراب والحلوى .
عند ظهر يوم العيد تجمع كل أهل القرية في الساحة. كان ستيف في الصف الأول ببدلته السوداء الأنيقة يحيط به أمه وأبوه وإخوته، وكان العمدة ومساعده أمام الساحة بانتظار وصول العروس، الجميع في صمت تام إلا من بعض الهمسات هنا وهناك خاصة بين النساء، أطلت العروس سارة تمسك بيد والدتها وزوجة عمها وهي ترتدي ثوب الزفاف الأبيض المرصع بالأزهار الطبيعية والورود تجره خلفها ببطء، وهي تمشي بكل وقار واحتشام، ويمسك بطرف ثوب الزفاف إخوتها الصغار جورج ونيكسون .
كان الجميع يحدق بدهشه كبيرة في العروس وكأنها تشاهد لأول مرة. زيّن عنق سارة سلسال أبيض جميل بلون الحلق الذي يتدلى برفق وحنان ويعانق أحيانا عنقها الجميل وعلى رأسها إكليل بلون الفستان يعلوه تاج يشع بنور وجهها الجميل والبهي .
كانت ساره تضع مكياجاً خفيفاً وعطراً ساحراً تخالطه رائحة الورود الفواحة، كان جسمها فاتنا كله أنوثة وحيوية وهي تتقدم الصف الأول، أخذت والدة سارة بيد ستيف ووضعتها في يد سارة ووقفت مكانه وما زال الجميع يتأمل ويراقب والهمس من هنا وهناك بإعجاب وفرحة، توجه العروسان نحو المنصة الرئيسية بجانب العمدة .
تقدم العمدة قليلا إلى الأمام وقال مخاطبا الجمهور :
سيداتي… وسادتي ،،
نحتفل اليوم بمناسبتين عزيزتين علينا جميعا ..
الأولى هي العيد السعيد الذي يجلب معه لنا كل عام الخير والسعادة للجميع، والثانية الاحتفال بهذا الزواج المقدس والمبارك والمميز الذي يختلف عن كل الأعراس السابقة والذي يجمع بين الآنسة الفاتنه سارة والشاب المكافح ستيف .
منذ أن أحب ستيف عروسه سارة أصبح شابا نشيطا وعمليا بعد أن كان مشاكسا وكثير المتاعب. ضحك الجميع وهم يتبادلون النظرات. تابع العمدة :
لقد وقف ستيف إلى جانب عائلة جو موقفا مشرفا وكريما يشكر عليه.
صفق الجميع بحرارة وهم يهتفون .
التفت العمدة نحو الأب يوحنا، وقال له :
تفضل يا أبتِ لتبارك هذا الزواج وتعطيه شرعيته .
تقدم الأب يوحنا إلى المنصة، ووقف أمام العروسين وقال للحضور:
من المفروض أن يتم عقد القران في الكنيسة ولكن في مثل هذه الظروف التي تنبع من طابع البلدة خاص فإنني سأعقد قران العروسين هنا. صفق الجميع مرة أخرى، وقال الأب يوحنا :
آنسه سارة .
هل تقبلين ستيف زوجا لك تحترمينه وتقدرينه في السراء والضراء وإلى الأبد .
قالت ساره : نعم يا أبتِ أقبل به زوجا .
قال الأب : سيد ستيف ..
هل تقبل بسارة زوجة لك تحترمها وتقدرها في السراء والضراء وإلى الأبد .
قال ستيف : نعم يا أبتِ أقبل .
قال الأب : إذن أعلنكما زوجاً وزوجة وأبارك لكم، وبالسعادة والهناء .
تعالت الأصوات بالهتاف بالفرحة والسعادة وأخذ الجميع يقذفون العروسين بالأزهار والورود وهم يباركون لهما، ثم بدأ الرقص والغناء .
وقف مساعد العمدة وقال :
أيتها السيدات ..أيها السادة ،،
لقد حان الآن موعد إلقاء التحية على العمدة و العروسين، فلنقف كما تعودنا ولنبدأ مراسم التهنئة. بعد الانتهاء من المراسم أخذ الحضور في تناول الطعام والشراب ثم عادوا للرقص والغناء، ثم أنهى العمدة الاحتفال قائلا :
أهنئكم جميعا بهذا العيد المبارك. حقا لقد أسعدنا هذا العرس الرائع والجميل وأمضينا وقتا فريدا، علينا الآن العودة قبل حلول الظلام. ثم التفت الى زوجة جو وقال لها:
أرجو يا سيدتي أن تقبلي دعوتي الإقامة عندنا، فأنا وزوجتي سنكون سعيدين باستضافتكم لمدة أسبوع كامل، ولنترك المنزل للعروسين ليرتاحا فيه بعض الوقت .
شكرت زوجة جو العمدة على كرمه ورعايته واهتمامه بعائلتها، وتقدمت نحو العروسين وباركت لهما ودعت لهما بالسعادة .
استطاع ستيف أن يعوض سارة والعائلة عن جو وأخذ يعمل في المزرعة وحده بكل نشاط وحيوية، وأضفى على البيت والأسرة جوا رائعا من المحبة والبهجة، وأخذ يهتم بالصغار وألحقهما بمدرسة البلدة التي أسستها زوجة العمدة قبل سنة .
أخذ ستيف على عاتقه العناية بعائلة جو، وكان يقوم بأعمال تطوعية وخيرية تحت إشراف البلدية، وحذا ستيف حذو جو في حب الآخرين ومساعدتهم وأكسبه ذلك حب الجميع في البلدة، هكذا أرادت ليزا وابنتها سارة لستيف أن يكون .
كانت زوجة جو على ثقة بعودته يوما ما ولذلك ومنذ اليوم الأول أخذت تخيط لنفسها ثوبا خاصا لترتديه يوم عودته واحتفظت به في خزانتها وكانت كل يوم تتأمله وتقلبه كثيرا وتحاول أن تضعه على نفسها وتنظر في المرآة وتبتسم وتعود بذاكرتها إلى الوراء أيام الصبا والشباب .
بتوسع البلدة وزيادة عدد سكانها كثرت المحلات التجارية والخدمية، وتم توسيع الشوارع وتنظيم البلدة وبتاء المدارس وتعبيد الشوارع وإنارتها وأقيم مركزٌ صحيٌ ومخفرٌ للشرطة، كان العمدة قد أوصى لجنة من المهندسين بإعداد دراسة كاملة للبلدة ورسم الخرائط وفرز الأراضي وتنظيم أوراق رسمية بها وأعطى كل واحد ورقه تثبت ملكيته لأرضه .
أقام العمدة منتزهاً كبيراً ليكون مكانا يستجم به الناس بعيداً عن العمل والمنزل ويكون مصدراً لجلب السياح من كل البلاد، وأرسل عددا من الشباب برفقة مساعده كوفي إلى العاصمة ليتدربوا في بلديتها على كل الأعمال اللازمة حتى يقوموا عند عودتهم بتنظيم أمور البلدية.
عاد مساعد العمدة والشباب المرافقين له من العاصمة، كان العمدة مريضا جدا فلزم الفراش، وأوصى الأطباء العمدة بالراحة التامة وعدم إشغال نفسه بأمور البلدة وغيرها. استلم كوفي مهام العمدة وأشرف على إدارتها وتنظيم العمل فيها حسب الأصول .
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 09-08-2011 في 01:09 PM.
بعض اهتمام بهذه الرواية اعلامياً مع طباعتها على حساب أي جهة مسؤولة تُقدر هذا النوع من الأدب (العالمي)
سيرفد المكتبات العالمية والعربية بصيدٍ وفير~
هذا رأيي فيما كتب أديبنا الرائع رياض حلايقة
والله من وراء القصد