لمشروع أدو نيس الفكري والإبداعي
* جلال برجس
لا شك أن مشروع أدونيس الفكري والابداعي دخل في خانة الاشكالية منذ وقت مبكر , هذا المشروع الذي لايمكن أن نعزله عن شخصيته التي لاقت اعجاباً لدى الكثير مثلما لاقت امتعاضاً ورفضاً عند الكثير ايضاً بسبب كثير من رؤاه الفكرية التي راحَ بها الى جانب التطرف في مجملها,بحيث أنه – أي أدونيس- علّق في ذهنية المتلقي العربي صورته التي تشي بذلك الشخص الذي يحمل فكراً لاهوادة في المضي به اذ طرح نتائجه التي أعلنت عنه وما زالت تعلن بأنه صاحب فكر إلحادي .
وهذا الفكر الذي يضاف الى تيار عربي مازال يعمل في هذا الاتجاه بل ويُعَد أدونيس أبرز اقطاب هذا الفكر عبر رؤيته الماركسية للكون ماضياً وحاضراً ومستقبلاً منذ انغماسه في منجزات الحضارة الغربية فكرياً , ومنذ تنظيراته الشهيرة في الحداثة , وحفره الفكري في التراث العربي الفكري والادبي والديني استطلاعاً وبحثاً عن مسوغات تحمل شذرات تطابقاتية مع طروحاته وتنظيراته الحداثية .
نختلف كثيراً مع أدونيس فكرياً وسياسياً وأدبياً , ونأخذ عليه الكثير من المآخذ على اكثر من صعيد ولكثير من المواقف التي عبرها انحاز الى مفاهيم غربية بطريقة وعبر رؤية جافى بها الحضارة العربية بل وقلل من شأنها , لكننا بصدد ارهاصات أولى لمراجعة يقوم بها أدونيس نفسه وهو يعترف في كتابه الشهير ( الثابت والمتحول) عبر محاولته الانعتاق من هيمنة النموذج الغربي للحداثة وبالتالي الانعتاق من الحضارة الغربية برمتها وهو يقول ( وكما اننا نعيش بوسائل ابتكرها الغرب , فأننا نفكر بلغة الغرب : نظريات ومفهومات ,ومناهج تفكير , ومذاهب أدبية ... الخ , ابتكرها – هي أيضاً-الغرب:الرأسمالية,الاشتراكية,الديمقراطية,(...) المنطق الديالكتيك, العقلانية,...الخ, الواقعية,الرومنطيقية,الرمزية,السريالية)
وازاء هذا التصريح الذي علينا الالتفات له بشكل منطقي , لا بشكل يجعلنا أن ننسف منجزه الابداعي والفكري , خصوصاً في هذه الايام الحالكة , خصوصاً ايضاً اننا ازاء فكر لرجل ابحر في اتون الثقافة الغربية ملياً مثلما ابحر في ثقافته العربية
كما أننا لايمكن أن نغفل اعتراف ادونيس في كتابه( الشعرية العربية) الذي أشر من خلاله الى رغبة حقيقة في المراجعة الجدية أو كما يحلو للبعض بتسميتها رِدّة اذ يقول ( أعترف بانني كنت بين من اخذوا بثقافة الغرب غير انني كنت كذلك بين الاوائل الذين مالبثوا ان تجاوزوا ذلك ,وقدتسلحوا بوعي ومفهومات تمكنهم من ان يعيدوا قراءة موروثهم بنظرة جديدة وان يحققوا استقلالهم الذاتي )
لذا أرى أن قراءة محايدة- بكل ماتحمله الكلمة من معنى علمي ومنهجي ومنطقي – يجب أن تتخذ بحق هذا المنجز الفكري الابداعي الذي كثر مناوئوه مثلما كثر مناهضوه.
وهنا نحن ازاء كتاب يتطرق الى (مشروع أدونيس الفكري والابداعي/ رؤية معرفية),الصادر عن المعهد العالمي للفكر الاسلامي-هرندن-فرجينيا-الولايات المتحدة الامريكية للدكتور عبدالقادر محمد مرزاق 2008
اذ يؤكد مرزاق في مقدمة كتابه على انه ينتهج قراءة محايدة لفكر ذلك الرجل واعماله الابداعية , مؤكداً على تنصله – اي المؤلف- من اي عواطف قومية اودينية , اذ انه يشير الى أنه ينتهج قراءة واعية تتسم بشمولية تتخذ مرجعية رغم علمه المسبق بكل المواجهات التي تقف في وجه اي قراءة لها مرجعية ما , اذ يوكد مرزاق على ان المرجعيات تختلف باختلاف الثقافات والحضارات , واضعاً تبريراته الاولى بصدد الهجوم الذي من الممكن أن يُتَّخذ ضد كتابه الذي يستعرض ويغوص في اهم المشاريع الابداعية والفكرية العربية , فيتسائل المؤلف عن وجود كثير من الشعراء والنقاد الذين يحاكون غيرهم من الغربيين دون فهم الاسس الفلسفية الوجودية الحلولية والتثليثية التي بنوا عليها فكرهم , اذ يرى أن مجموعة من النقاد والشعراء والمفكرين يعملون لصالح حضارة بعينها لا حضارتهم.
وبصدد مرجعيته في قراءة مشروع ادونيس يؤكد المؤلف على ان مرجعيته تتمثل في الفعل الباني الحر الذي يشتمل على عناصر الهدم مثلما يشتمل على عناصر البناء , هدم العناصر المظلمة التي تشد الانسان الى الحضيض , مشيراً الى أن قراءته ليست قراءة مؤدلجة بالشكل الذي يمكن ان يأخذ منحى سلبيا من حيث قراءة الاخر ثم يضيف بما يثير الاحساس بالتناقض ان قرائته ذات نمط ايديولوجي مرجعي قيمي انساني حيث رؤيته بأن لاقراءة بلا ايديولوجيا ولكن هذه الايديولوجيا عليها ان تأخذ منحى انساني شمولي , أو كما عبّر المؤلف على انها قراءة ذات هوية , تلك الهوية التي يرى عبدالقادرمحمد مرزاق أن فقدانها لايعني العوم في الفضاء الوجودي فقط بل يعني العوم في الفضاء المعرفي ايضاً .
ويشير المؤلف الى الموضوعية التي يتبناها لقراءة ادونيس بانها لاتتعارض مع ايديولوجيا ادونيس نفسه من باب توخي العدل الانساني حيث يناهض المؤلف في هذا الصدد ما ذهب اليه عبدالوهاب المسيري حول العلمانية الشاملة فيما يتعلق بقراءة الموضوع .
وفي مقدمته يناقش المؤلف اللغة علاقة الدال بالمدلول ويتفق مع مارآه عبدالوهاب المسيري من ( أن اي نص كتبته يد انسان هو مجموعة من الدوال التي تشير من خلال علاقاتها الداخلية الى مجموعة من المدلولات والعلاقات الخارجية ولا بد ان ثمة افكاراً يكوّنها الانسان كاتب النص في عقله وقلبه )
فالذي يتبدى هنا أن الكاتب يحاول في مقدمته- التي افرد لها مساحة واسعة من الصفحات - اضفاء صفة المحايدة على نبشه وبحثه , وقرائته في مشروع ادونيس الفكري والابداعي , ثم يعاود التلميح بان المحايده في هكذا جانب أمر محال أو لنقل أمر ليس بيسير , رغم انه يقول بانه ينتهج منهجاً علميا , وان دل هذا انما يدل على ان عبدالقادر محمد مرزاق يحمل في دواخله موقفاً مسبقاً من مشروع ادونيس الفكري والابداعي – وهذا حق لايعارضه عليه أحد- فما محاولته- التي يبذل فيها جهداً كبيراً الا لتسهيل وقع حكمه ورؤاه على منجز ادونيس الفكري على نفس القاريء الذي يتقاطع مع فكر ادونيس, وليجد صداه في نفس القاريء الذي يتعارض مع فكر أدونيس, لكن كما هو معرف فأن القراءة التي نتنتج عن القاريء/الباحث/الناقد الذي يحمل في دواخله موقفاً مسبقاً من الموضوع/الشخص -الذي هو بصدد التوغل في تفاصيل مشروعه وبالتالي الخروج بنتيجة يفيد بها القاريء العادي والقاريء المتخصص- تجيء هذه القراءة مبتورة على نحو ما اعتدنا عليه في كثير من البحوث التي اصبحنا في الاونة الاخيرة نقتنع بانها ليست محايدة وانما جائت على نحو استباقي مقصود , واذ أورد هذا الراي فلايعني هذا دفاعاً عن أدونيس من قبلي فأنا احمل في دواخلي موقفاً ربما يفوق موقف محمد مرزاق من ادونيس , لكن ما اشير اليه هنا هو ضرورة الالتزام بابسط ادبيات المنهج لقراءة شخص ما ولقراءة تجربته .
فمن المعروف أن القراءة المحايدة أمر ليس بالهين في هكذا مشاريع ابداعية لكنها في المقابل ليست مستحيله خصوصاً اذ انتهج القاريء/ الباحث المحايد منهجاً علمياً والتزم به على نحو يتم فيه توخي العدل , رغم أن المؤلف لهذا الكتاب الذي نحن بصدده يأخذ على كثير من الشعراء النقاد والكّتاب انتهاجهم الجزئي والكلي لمناهج وطروحات نقدية غربية , بدل أن ينادي المؤلف بمواجهة المنهج بالمنهج والرؤية بالرؤية , اذ هنا تدخل حالة التفكير عبر نظرية المؤامرة التي لايمكن لها ان تتطابق وتتقاطع مع الابداع كحالة انسانية , اذا نقول هذا القول فلا يعني هذا التبشير بطروحات العولمة – التي بدأت في الاونة الاخيرة تعكس فشلها الذي لم يكن متوقعاً بهذا الشكل - انما نحاول تنشيط وتفعيل الحراك الابداعي من باب ثيمة الانسانية التي ترى في الابداع حالة كونية , ومن جهة اخرى لاندعو للتسليم الجامد بكل ما هو قادم من جهة الاخر . ونتفق مع المؤلف فييما يتعلق بخصوصية المرجعية , ولكن نزيد في القول بأن هذه المرجعية يجب أن لاتكون منغلقة على ذاتها , بحيث تصير اختلافات المرجعيات من وجهة نظر تلك المرجعية ذات الخصوصية عائقاً أمام التلاقح وأمام نمو الوتيرة المعرفية , التي ماكان الانسان بحاجة لها أكثر من هذه الايام التي لايمكن وصفها بأقل من غياب اليقين اثر حالات التداعي والانغلاق والاختلاط المربك .
وينطلق مؤلف الكتاب باتجاه قرائته المرجعية لتجربة أدونيس المهمة- بغض النظر عن الاختلاف مع فكر هذا الرجل او التوافق معه- عبر إشكالية علاقة الدال بالمدلول متسائلاً حول ثباتٍ ما في هذا الجانب أم هي صيرورة جارفة على حد قوله , اضافة الى تسائله عن علاقة كل ذلك بالثلاثية المتشابكة : المؤلف /النص/النقد او القصد /النص التفسير.
ويسترشد مرزاق بمقدمة كتاب عبدالحميد ابراهيم (الوسطية العربية مذهب وتطبيق) حول الدال والمدلول تلك المقدمة التي يرى فيها ان اللفظ ليس مجرد عبارة براقة او مصطلح حديث او مجرد ثوب عصري نتيه به ونستدل على تقدميتنا وعصريتنا بل هو عالم زاخر يجر وراءه تداعيات ذهنية ويسحب المرء من حيث لايشعر الى نتائج قد لايريدها تماما كتلك الابواب السحرية القديمة التي تحدثت عنها ألف ليلة وليلة والتي تفتح عقب كلمة السر فيجد المرء بعدها عالماً من المدهشات والغرائب .
اذ يؤشر مرزاق هنا الى الثلاثية المتشابكة وخصوصاً النقد او القصد من حيث نص ادونيس الشعري خصوصاً الذي رآه المؤلف عبر تأويله يعلن عن رؤية ادونيس التي تقول بأنه ‘‘ إما ان نعلن عن استحضار الله والقيم في تشكيل الخلفيات الفكرية والثقافية عموماً فيكون اعلان موت الابداع واما ان نعلن عن موت الله ونعدم القيم في تأسيس المرجعيات فيكون ميلاد الابداع ‘‘ اذ يقع التناقض هنا في الطرح النقدي مع حكمين متنافرين من حيث القصدية التي استدل عليها عبر مقدمة عبدالحميد ابراهيم وبين الحكم الذي جاء في الخاتمة.
ونحن هنا اذ نتعرض لقضية انما نتعرض لاسلوب ومنهج عرض القضية وبالتالي الاعتراض عليها , فادونيس يحمل فكراً إلحاديا لاجدال عليه , ولكن يجب ان لانكون منغلقين في قرائتنا لها كما يقول مرزاق في سياق كتابه وثم يمارس انغلاقاً من جانب اخر رغم رفضه لانغلاق البنيوية .
وحول الحضور الادونيسي في الفكر العربي يتعرض الكاتب لنشأة ادونيس ومذهبه السياسي وتحوله من مباديء وافكار الحزب القومي الاجتماعي السوري الى شيوعي , كما ويتطرق لتجربته مع مجلة شعر وعلاقته بمنظمة حرية الثقافة المعروفه كأحد وجوه المخابرات الاميركية تلك المنظمة التي ساهمت عام 1961 بعقد مؤتمر روما للادب العربي وما وراء ذلك المؤتمر من منظمين , وادونيس ليس بعيداً عن الشبهة من هذا الجانب سواء كان يعلم ذلك او لايعلمه سواء كان ذلك مقصوداً او غير مقصود , لكن المعضلة هنا أن القراءة لمشروع فكري ابداعي لايمكن لها ان تكون محايدة والكاتب في هذا السياق يستعرض كثيرا من التفاصيل رغم انه يقول بانه ( قبل الخوض في هذه الاشكالات يجدر بنا ان نشير بدءاً الى ان الحديث سيكون مجرد ايماءات لانتوخي فيه التفصيل والتقصي , كما ان عنايتنا ستكون بما نراه ذا صلة وثيقة بالشعر والادب والفكر عموماً بعيداً عن النيل من شخص الشاعر او تجريحه او الازدراء بانتمائه الايديولوجي او العقدي إلا ما فرض نفسه وتسرب ظلالاً في تشكيل امشاج الشاعر )
لكن هذه الايماءات -التي تعدت حدود الايماءة في الاصل وتجاوزتها - تشي بشكل صارخ بتناقض القول بان كون المؤلف يصرح بكونه محايداً وبأن ما نراه هنا بعيداً كل البعد عن أساس المحايدة التي نتمناها في قراءتنا لمشاريع ابداعية اشكالية كمشروع أدونيس الفكري والابداعي , لنخلتف مع هذا الرجل لكن يجب أن يأخذ اختلافنا بذلك المبدأ الذي مفاده باننا نختلف لكي نلتقي .
نسلّم بأن ادونيس ملحداً وبأن تجربة مجلة شعر تقع في باب الشبهه, ونسلّم بأن أدونيس نرجسياً وبأن كتابه(قضية باسترناك) قيل أنه صدر بتمويل من المخابرات الامريكية, وبأن مؤتمر روما للادب العربي الذي عقد في العام 1961 وقع في خانة الشبهة من حيث أن المنظمين كانوا امريكان او صهاينة , ونسلّم بأن أدونيس هو نفسه من نعى على شعر المقاومة الفلسطينية عدم ثوريته وإقامة مجاهديه المسبقة في الجنة كحل خلاصي فردي, لكن أليس الكاتب – واقصد مرزاق- هنا في صدد رؤية معرفية لمشروع أدونيس الفكري والابداعي ؟
ربما يقول قائل ماذا تبقى بعد ذلك لكي نسلم بمشروعه الابداعي , فاقول
لماذا هذا التخبط الذي يجيء عبر أدوات تحاول ان تنكون منهجية وتجاهد في الاقناع ؟ وكيف تكون الرؤية المعرفية صائبة عبر هذه الحالة من الاختلاط المقصود أو غير المقصود .
ترى هل اذا قمنا بقراءة تجربة المتنبي -جدّنا في الشعر- عبر رؤية استباقية تأخذ عليه لهاثه وراء الولاية التي بانت في كثير من قصائدة التي لايمكن للذائقة العربية بل والعالمية أن تنساها , هل اذا وضعنا في مخيلتنا النقدية حالته تلك كمأخذ نستطيع أن نكون منصفين لشعره ؟ هل اذا غصنا في سيكيولوجيته عبر مفرداته اللغوية- التي كان ينام قرير العين عنها في الحين الذي يطارده غيره- ووضعنا نصب أقلامنا بأن هذا الرجل الذي يقول بأن الخيل والليل والبيداء تعرفه , لايتقاطع مع رجولته وهو يولي الفرار في الحادثة التي قتل بها وبالتالي يوصم بالجبن؟ في حين نغفل الدفقات عالية المقام من الحكمة والفلسفة والرؤى الكونية للحياة ؟
طبعاً لن نكون منصفين لتجربته الاشكالية في الشعر , اذ ان التجرد – بما أننا نبتغي قراءة مشروع ابداعي ما- ضرورة كبرى يجب ان تتوج النص النقدي ويتتوج النص بها , دون الولوج والاسهاب في تفاصيل لاتفيد تلك الافاده في الوصول الى فهم صورة منطقية لذلك المشروع الابداعي.
يتسائل محمد عبدالقادر مرزاق في حديثة عن ( الحداثة مقاربة المفهوم والتجليات ) كمدخل الى القضية الأولى من قضايا المشروع الأدونيسي ( عن أي دين يتحث أدونيس؟ وعن أي شعر ايضاً ؟ وهل حقاً ذلك يمثل صرخة انعتاق من قبضة النموذج الغربي للحداثة ) إثر رؤية ادونيس في كتابة الثابت والمتحول والتي يقول فيها ( وكما اننا نعيش بوسائل ابتكرها الغرب , فأننا نفكر بلغة الغرب : نظريات ومفهومات ,ومناهج تفكير , ومذاهب أدبية ... الخ , ابتكرها – هي أيضاً-الغرب:الرأسمالية,الاشتراكية,الديمقراطية,(...) المنطق الديالكتيك, العقلانية,...الخ, الواقعية,الرومنطيقية,الرمزية,السريالية)
ثم يخلص مرزاق عبر اشارات- تضمنت , الحداثة رؤية معرفية فكرية للانسان والوجود , التأسيس للحداثة وفق نموذج معرفي كامن عبر مراحل تاريخية تضمنت اشارات مطولة للمسرح اليوناني والجاهلية ثم العصر الاموي وابو نواس رائد مشروع ادونيس واشارته الى فرق الالحاد والصوفية خاصة – يخلص الى ان نوع الدين الذي يبتغيه ادونيس اما دين ذاتي بالمعنى المبتذل او طبيعي بالمعنى الجاكليني – على حد قول المؤلف- او هو لادين اصلاً( انكار وجود الله) ثم يجيب على تساؤله السابق, بان صرخة الانعتاق من هيمنة النموذج المعرفي الغربي , تكاد تكون وهماً ويرد ذلك الى ان الخلفية المحركة انما هي خلفية النموذج المعرفي الغربي الكامن ويرى مرزاق ان تجليات ذلك يفضحها ذلك الانبهار- الذي يدب في العروق- بالحضارة الغربية .
وعبر تلك الصفحات الطويلة يأخذ الكاتب على أدونيس ارتباطه بمنجزات الحضارة الغربية الفكرية والادبية ويرى بذلك استغراقاً لايبتعد عن نظرية المؤامرة التي لاحت بشكل جلي عبر رؤيته المعرفية في هذا الكتاب ولايبتعد عن جلد الذات الحضارية العربية , رغم ان تساؤل ادونيس الذي سقناه سابقاً مطروح للتساؤل والبحث بطريقة ورؤية محايدة خصوصاً في ظرف نشهد فيه هجمة غربية على ذاتنا العربية الاسلامية , اذ ان تساؤل ادونيس عن كوننا نعيش بوسائل ابتكرها الغرب وبالتالي نفكر بلغة الغرب يضع العقل العربي على المحك خصوصا من مفكر غاص بشكل جلي في الثقافة الغربية وبتفاصيليها الدقيقة , اذ لنا أن نقول ان مراجعة ما امامها هذا الرجل .
ففي كتابه الشعرية العربية يقول ادونيس ( أعترف بانني كنت بين من اخذوا بثقافة الغرب غير انني كنت كذلك بين الاوائل الذين مالبثوا ان تجاوزوا ذلك , وقدتسلحوا بوعي ومفهومات تمكنهم من ان يعيدوا قراءة موروثهم بنظرة جديدة وان يحققوا استقلالهم الذاتي )
فادونيس عندما يقول ذلك لايعني أنه يريد أن ينسف منجزه الابداعي انما يعيد النظر فيه , ويقف عند المحطات التي لم تكتمل بها رؤيته , فبما أن ادونيس نفسه بات يعيد النظر في نفسه اليس هذا دافعاً لقرائته بشكل محايد ؟
ثم لاداعي أن توضع قراءة ما في المسافة الواقعة بين تيارين متحاربين واقصد مناهضي الحداثة ومناوئي الحداثة , فالحداثة لم تكن خياراً أنما اتت قسراً تاريخاً إثر حالات الدمار التي خلفتها الحربان الكونيتان وبالتالي أتت الحداثة العربية - رغم تأثرها الكبير بالمنجز الحداثي الغربي التي هي وليدة له – كردة فعل على حالة الدمار والخراب العربي التي احدثها ضياع فلسطين وما تمخض عن ذلك من هزائم طرحت ثمارها السوداء على البنى الخارجية والداخليه , فكانت ضرورة التجديد والثورة على الكلاسيك بما أن ذلك الكلاسيك لم يفعل شيء ازاء ذلك الخراب.
لكن ادونيس- وهذا ما لانرضاه- ثار على المطلق وبالتالي ثار على الله عزوجل, وهذا لم ينسحب على الحداثة العربية في مجملها , رغم ان كثيرين لايرون حداثة عربية في الاصل, في المقابل للذين يرون حداثة عربية انتجتها هزات وزلازل عربية كبيرة مع اعترافهم بارهاصات أولى لحداثة عربية في التراث العربي في اكثر من مرحلة .
وفي تطرقه لمرحلة الشعر الحر والامساك بخيوط القول , يتحدث مرزاق عن الحداثة العربية وتجلياتها متسائلاً ( أما وَخَطَ الشيب شعر هؤلاء الان فيعتبرن ماكان من خربشاتهم الطفولية – كما اعلن نزار قباني يوماً – كان مجرد خربشات طفولية ؟)
كما يستشهد بما قالته خالدة سعيد في كتابه (حركية الابداع) بأن الحداثة العربية خرجت من أسر المطلق ( وأنها لمسألة عميقة الدلالة أن تكون اتجاهات التجديد قد بدأت في أحضان العلمنة أي النظر اللاديني الى التاريخ , والنظر التطوري )
اذ نلحظ هنا بحثاً صراعوياً مابين مناهض للحداثة ومابين مناوئ لها يأتي عبر رؤية دينية لمشروع فكري فلسفي , فهل من المعقول أن ننظر الى الفلسفة عبر الدين بما أن الدين لايعترف بالفلسفه؟ وهل يجوز للمؤلف عبر رؤيته المعرفية التي يدعي انها محايدة ولاتتكيء على أيديولوجية أن يصف الشعر الحداثي بأنه مجرد خربشات اطفال ؟
طبعا لايجوز بما أن المؤلف ادعى في مقدمة كتابه بانه يحتكم الى منهج وانه يرفض تدخل الايديولوجية في قرائته , لكن هذا لم يحدث اذ أن مارايناه مجرد تصريحات أتت في المقدمة لتوريط القاريء لا اكثر ولا أقل ولتمرير مجموعة من الافكار , فالتجديد ضرورة حياتية لابد ان تتخللها ثمار غير مقبولة لكن مع التقادم الزمني لابد للثمرة المناسبة ان تشي بنفسها , والتاريخ له امثلة كثيرة في هذا المجال , لكن مايتبين هنا أن هذا الكتاب هجوم على تيار وعلى رأسه أدونيس , صحيح انه استشهد بكثير من المراجع ولكن ذلك الاستشهاد كان استشهاداً انتقائياً اكثر منه منهجياً اذ تجيء كثير من تلك الاستشهادات مبتورة وعلى طريقة ( ولاتقربوا الصلاة)
اذ كان من الممكن قبول هذا الكتاب وطروحاته لو انه أخذ صيغة غير الصيغة التي ادعاها المؤلف- اي انها رؤية معرفية لمشروع ادونيس الفكري والابداعي- فكان متاحاً للمؤلف ان يتناول انتماء ادونيس العقائدي والسياسي مدللا على رؤيته له بقصائد ادونيس وكتبه الفكرية , لكن مرزاق هنا ينسف مشروع ادونيس من وجه الرافض الكلي عبر رؤية غير محايدة تماماً , بل انها رؤية سياسية مؤدلجة بشكل لايمكن لاثنين ان يختلفا عليه .
وفي فصلين – الثاني والثالث - يتناول المؤلف تجليات الحداثة في مشروع ادونيس ويتوصل من خلالهما اننا في عالمنا العربي نعيش حالة من الجدب المعرفي واننا كأمة عربية لايدرج مثقفينا على محاسبة ( انفسهم عما تركوه بعد ان اخذوا به وحملوا بني قومهم على الاخذ به , ولا عما اخذوا به بعد ان تركوه وحملوا قومهم على تركه ولو اننا دخلنا في انفسنا عما اخطأنا فيه حيث كما نظن اننا اصبنا فيه عين الصواب بسبب اندفاعنا في تقليد فلاسفة الغرب الذين يصدرون في إنشاء افكارهم عن اسباب لاوجود لها عندنا ربما لاعلم لنا بها )
ويرى المؤلف اننا ازاء حالة من التقليد التي يرى ان مفكرينا لم يتناولوها نقداً بحيث يتوصل الى ان مرد ذلك قصور وسائلهم عن الاحاطة بدقائق من يقلدون .
وفي الخاتمة التي افرد لها محمد عبدالقادر مرزاق صفحات قليلة يقول ( إنه في المقام الاول والاخير ماكان –ولن يكون – في النية تجريد ادونيس من معتقده الديني خاصة. لقد كان الهم معرفياً وهو يستند الى مرجعية اوضحنا معالمها في مدخل الرسالة وفي ثنايا القضايا المطروقة )
ويقول في الخاتمة ايضاً انه ابتعد عبر عملية التعرية التي مضى بها في كتابه لم يبتغي التجريح الشخصي , رغم ان ذلك تناثر بكثرة عبر كتابه الذي حاول من خلاله نسف مشروع ادونيس هذا الرجل الذي رآه مرزاق في خاتمته ( يمتلك مشروعاً فكرياً وابداعياً لامراء فيه ) ثم يضيف في نفس الخاتمة ( ان دراستنا كانت منذ البدء تطمح ان يتحول الفهم والتفسير الى مقاومة من اجل مانتصور انه الحقيقة والعدل )
ويصرح في نفس السياق ان دراسته هذه ( ليست دراسة اكاديمية بالمعنى الحيادي الشائع ) مُحدثاً جملة من التناقضات التي لاتتفق مع الدراسات التي تجيء ضمن معايير ومنهجية تتوخى العدل في الدراسة والمدروس عنه.
ان عالم ادونيس الابداعي عالماً متسعاً يحمل في طياته فكراً لايمكن تجاهله بما انه عالم ليس منغلقاً على ذاته ومنفتحاً على الثقافة الانسانية برمتها , ويأخذ صفة البحث والحفر والتجديد الذي يصب في صالح الكلي الانساني , نختلف معه في كثير من مواقفه وطروحاته ومعتقادته ورؤيته للكون والحياة , لكن تاسيساً للحيادية التي افتقدناها منذ زمن علينا ان نتوخى العدالة الفكرية والعلمية في تطرقنا للمشاريع الابداعية سواء اتفقنا معها فكرياً أو ايديولوجياً أم لم نتفق , الجهد الذي قام به الدكتور محمد عبدالقادر مرزاق جهد لايمكن تجاهله ايضاً لكن كان عليه توخي العدالة الفكرية والعلمية اكثر مما رأيناه في التناقضات التي حملتها دراسته لمشروع ادونيس الفكري والابداعي , اذ ان الدراسة اخذت صفة هجومية اكثر مما هي اكاديمية بحثية محايدة اذ غلبت العواطف على أدوات الدارس التي لاننكرها عليه ولكن كان من المناسب تحييدها بما ان هكذا دراسات لاتتوافق مع العواطف التي ستأتي بحكم سريع ومسبق .
* كاتب وشاعر أردني
jalalghlelat@yahoo.com