لماذا تأخرتَ ؟ ! .
أنتظرك منذ الصباح ، استيقظتُ مع شروق الشمس ، جهزت كل شيء ، نظفت غرفتك رتبتها كما تحب ، مسحت زجاج المكتبة ، سحبت طاولة المكتب إلى الزاوية التي تحب قرب النافذة ، وضعت فوقها أوراقاً بيضاء و قلماً أخضر….
أعرف أنك تحب الكتابة بالقلم الأخضر ، تكره الأسود لأنه لون الليل و الدسائس ، و تكره الأحمر لأنه لون الشطب و الدم ، وضعت وسادة المخمل الصغيرة على كرسي المكتب لتجلس كعادتك وراء مكتبك قرب النافذة ، النافذة التي تقابل نافذة أمل ابنة الجيران … تنظر إلى أمل ، و تنظر أمل إليك ، تتبادلان أحاديث العشق و الغرام ، تهيمان في عالم آخر ، و فجأة تنسحب أمل ملبية نداءات أمها ، و تعود أنت إلى الأوراق البيضاء لتخط بالقلم الأخضر عوالم من الأمل و الفرح .
لماذا تأخرتَ يا وحيدي ؟ حَضّرتُ لك وجبة الغداء التي تفضّلها ، و سكبت الطعام في الصحون ، أعرف أنك مهمومٌ , أمل ابنة الجيران هي السبب , أعني أمها التي شكّت بما يدور خلف النوافذ , فصارت تراقب ابنتها أمل لتفاجئها متلبسة بالعشق
شددت أمها الحصار على نوافذ البيت , صرت بالكاد تبادل أملاً بضع كلمات في اليوم .
أعرف أن مشاكل العمل تقلق راحتك ، يريدون أن تقبل الهدايا … الهدايا التي ستجعلك من رجال البنوك و الأرصدة و الشيكات ، لا يعرفون أنك لن تستجيب لهم يعتقدون أنهم سيتمكنون من إقناعك ، أنا متأكدة أنهم سيفشلون ، أنت ولدي وحيدي , ولا أحد يفهمك مثلي .
أعرف أنك حزين و عاتب على أبيك لأنه لم يسأل عنك منذ ولدت ، نسي أن له ولداً ، ذكرتني بالماضي ، كنت أجمل بنات البلدة ، و أبوك كان أجمل شباب البلدة , و أكثرهم فتوة ومرحاً ، وكان لا بد أن نلتقي ، و التقينا , التقت العيون , ثم القلوب ، و اشتهر حبنا ، وصار حديث الناس .
عندما طلب أبوك من أهله أن يذهبوا معه ليخطبني رفض أهله ,و تعالت أصواتهم : كنا نظنه يتسلى معها كيف لابن عائلة مجيدة , كريمة الحسب و النسب أن يتزوج فتاة عادية من أسرة فقيرة ، كيف يترك بنات العائلات الأصيلة عائلات الأمراء و الشيوخ ، و يلحق فتاة تسكن مع أهلها في غرفة من الطين .
لماذا تأخرت ؟ .
الشمس قاربت على المغيب ، و أنت لم تأت ، كل شيء جاهز ,وضعت طاولة الخشب و الكراسي تحت الدالية , جهزت إبريق الشاي … أعرف أنك لن تأتي وحدك ، سيأتي معك أصحابك كالعادة , ستجتمعون حول إبريق الشاي ، تقرؤون القصائد , و تغنون المواويل ، تتحدثون عن أحوال البلد ، و تتجادلون في السياسة و النساء ، تتألق بينهم ، و أنت تتحدث بحماس و ثقة ، فأراك أميراً أو ملكاً وسط حاشيته .
أعرف أنك مهموم لأنك لم تعد تستطيع رؤية أمل ، أمل التي بكت بحرقة عندما أجبرتها أمها على ترك غرفتها لتنتقل إلى غرفةٍ أخرى بلا نوافذ .
أعرف أنك عاتب على أبيك لأنه هجرني ، أنت تعرف أهله ، رفضوا زواجه مني بشدة تحداهم ، وتزوجني رغماً عنهم ، وضعهم أمام واقعٍ لا مفرّ منه ، اجتمع مجلس العائلة الكريمة ، و اتفق الجميع على قرارٍ واحد ، وضعوا أباك أمام خيارين : إما أن يطرد من البلدة ، و ُيحرَمُ من الميراث ، و ُيسلخ عن العائلة ، أو يقبل بقرارهم ، ضغطوا عليه ، فقبلَهُ ، و عندما علمت بالأمر طلبت منه أن يطلقني .
لماذا تأخرت ؟ .
أسمع أصوات الزغاريد في بيت أمل ، الخبر صحيح ، جاءها عريس لكن تأكد أنها لن توافق ، هي وعدتني أن تنتظرك ، أبوك لم ينتظر ، تزوج بعد أن طلقني من ابنة عمه ، و صار عنده حشد من الأولاد .
لماذا تأخرتَ ؟ .
سينتصف الليل ، و أنت لم تأت بعد ، تعال لن تكون مهموماً أو حزيناً ، تعال في الصباح الباكر سأذهب إلى أهل أمل ، و أخطبها لك ، لن يسع العالم فرحتها ، تعال أبوك سيتذكر أن له ولداً ، و سيأتي ليبارك زواجك ، سيأتي أصحابك ، و يرقصون ابتهاجاً بعودتك .
لماذا تأخرت ؟ .
و تركتني وحيدة ، تعلم أن الذكريات الحزينة تحاصرني عندما أبقى وحيدة ، انتصف الليل ، لا تتركني عرضة للوساوس و الهموم ، هاهي دقات الساعة تعلن الواحدة ليلاً ، أخشى أن يطلع الفجر ، و أبدأ رحلة انتظار جديدة أخشى أن تواجهني أشعة الشمس لأجد نفسي وحيدة أمام الحقيقة المرة : إنّ الجيران ليس لديهم ابنة اسمها أمل و إن أباك قبل قرار العائلة ، العائلة التي قبلت الزواج بشرط ألا تعكر دماء العائلة النقية ، و ألا يصبح لابنها ذرية من امرأة فلاحة …
أخشى أن أواجه الحقيقة المرة التي هربت منها ثلاثين عاماً ، الحقيقة التي اكتشفتها بعد أن استعدت وعيي في المشفى : إنّ عملية أجريتْ لي ، و أن الطبيب استأصل الرحم .
الاخ جاسم جميلة قصتك
نسيت ما حولي و أنا مع هذه الأم المنتظرة انفعلت معها و هي ترتب أدق التفاصيل في حياة وحيدها الغائب
ترتب جلسته و سهرته و عشقه ...
ثم جاءت القفلة الأكثر من رائعة ... أن الأم لا ولد لها بل تعيش حالة الوهم
و كل التفاصيل و الأشياء التي سردتها لا وجود لها حتى أمل .. ابنة الجيران .. الحبيبة لا وجود لها .. حتى اسمها كان رمزيا أمل
أكرر .. القفلة كانت اكثر من رائعة
شكراً لك ... كتبت فأبدعت
الأديب أحمد جاسم الحمود
جعلتنا نعيش في بداية النص مع قصتين
قصة الإبن و بنت الجيران و قصة الأم و زواجها في الماضي
و مباركة الأم لحب إبنها و عدم مباركة أهل زوجها لزواجها
عايشنا القصتين بتفاصيلهما لنفاجئ في النهاية
بالحزن العميق الذي تعيشه السيدة التي
حرمت الزوج و اإبن
أما بخصوص أسلوبك أستاذ جاسم
أكثر من شيق و رائع
تقبل تحياتي و دائما في انتظار إبداعك الجميل