بعدما قذفتها نافورة الجحيم إلى السماء . عادت الأجساد أشلاء تحط كيفما اتفق. الناس خاضت بحركة فاقدة الاتجاه. أنا كنت احد الفارين عن المكان . الفاجعة التي حلّت جعلتني لم أتبين جيداً بأن الرجلين الذين يركضان أمامي كانا بلا رؤوس. تلمست فوقي لأطمئن على وجود رأسي. مشهد الرجلين أثار الذعر . فتدافعت المارة أوزاعاً هاربة من حولهم لأي مكان . افترق الجسدان كل الى زقاق. أحدهم أراد أن يصل الباب بالكاد . لكنه سقط على مقربة من ﺇمرأة خرجت للتو مذهولة لشدة الصوت وهول العصف الذي ﺇصطفق الأبواب .
تهالكت قامتها عليه . مرغت وجهها بدماء لم تجف بعد . فارت بها أوداجه على قميصه الوردي الذي دشنه صباح هذا اليوم . هنا تماهت عني أحداث المشهد خلف ضباب الدموع. ظل سمعي هو الوحيد الذي يضخ عليّ نشيج أم فجعت بولدها مذبوحاً . تندب الواقفين أن يأتوها برأسه . هم يرشون أعصابها بطمأنينة عودة رأس أحمد حتماً .لكن لا يدري أحد منهم كيف سيعود؟ ربما محمولاً على شظية قد تأخرت بسبب زحمة الطريق . أو يأتي مشياً . وكيف يصل مبكراً وهو لا أقدام له ؟
ثمة رجال عنتوا ممسكون بشيخ على حافة الجنون . يحاول قطع رأسه تضامناً مع هذا الجسد . في خضم تلك الجلبة والتهاب المشاعر وغليان الدم. أتى الرأس. كان ثالث ثلاثة رؤوس يحملهنّ أحد رجالات الأمن بين ذراعيه. يصيح بلهفة من فقد صوابه.
ـ رؤوس... فقط رؤوس... لمن هذه الرؤوس ..؟
المحتشدون خاضوا بصياح من نوع آخر . تدافعوا وهم يمطون أعناقهم لمطالعة الرؤوس لمعرفة عناوينها. أحمد شاب لدن العود . وضيء الطلعة . ﺇبتسامته الشفيفة وجدوها متخثرة على محياه. لم تتمكن غصة الألم من محيها . لربما يختلف التعبير عن ثقل الألم عند بعض الرجال .
الرؤوس الباقية عادت تبحث عن أجسادها في زحامات الأزقة المكتظة بالضجيج. تقاطر المبتهجون بعودة الرأس من كل حدب وصوب . صافحوا والد أحمد بلوعة كتيمة مهنئين
زفاف ولده الى عشه الخشبي. أمه المفجوعة . راحت وبلا واعية تقلّب حاجيات أحضرتها لزواج مرتقب لصاحب هذا الرأس. جللت نعش العريس بها. والده تربع بوقار ناقص في صدر السيارة التي حملت بذلة الخشب التي ارتداها ابنه.
سار موكب الزفاف وسط حشد المشاركين بلا دعوة مسبقة . وهم يعزفون نواح من طراز غريب لوداع عريس الى مقر إقامته. قبيل أن تنتزع السيارة ، المحملة بفوق ما تستطيع من الأحزان ، آخر عجلة لها من بين أقدام المشيعين .
حط السكون على الجميع. مدّوا حواسهم صوب امرأة جاءتهم بنكد آخر من نفس الطراز. قالت وهي تدس رأسها بنافذة السيارة .
ـ هذا رأس ولدي .... هل تأكدتم بأن الجسد الذي في التابوت هو ابنكم. ؟؟
صعقهم الكلام . هرعوا صوب الصندوق . فتحوه. فزعقت المرأة .
ـ ولدي ( حسن) ...!!
ﺇنكبت عليه مغشية . الأم الأولى زحفت منسرقة القوى . جلست صامته تقلّب مقاسات القميص الوردي. . الدليل الوحيد الذي لم يثبت عائدية الجسد لها . أخذت رأس أبنها إلى صدرها . سحلت نفسها مكسورة وترجلت من السيارة . وغارت في فضاء آت المدينة الملتهبة . تأمل بلقاء أم أخـرى تحمل جسداً عليه دلالة واضحـة غير لون القميص............
========================
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 04-18-2012 في 04:03 AM.
أستاذ ابراهيم
مرحبا بك
يبدو أن مشهد الرؤوس المقطوعة يسكن أرواحنا وأقلامنا
نص مكثف لمأساة كبيرة ألقت بظلالها على كل من شاهد هذا المشهد
ومن لم يشاهده
أحييك أيها المبدع