امتد الشارع أمامي فبدا لي الطريق المعبد أكثر أمانا وألفة وأنا أتطلع إلى العمارات الشاهقة المتراصة والمحال التجارية والمقاهي التي جعلت المكان يضج بالحياة .
كان لابد أن يحدث هذا التغيير، فعشرة أعوام مدة كافية لتحويل هذه المنطقة العشوائية إلى حي متكامل لا يختلف عن غيره من الأحياء التي خضعت للتخطيط الإداري السليم ، حتى أن الكلاب السائبة لم يعد لها أثر فيه ، فالشارع يعج بالمارة ليل نهار ، وهذا ما جعل قلبي يطمئن لهذه الزيارة التي ستستغرق وقتا أطول من زيارتي السابقة التي اتسمت بالقلق والأرق وعدم راحة البال .
اختلفت الشقة كثيرا بعد أن رممت وطليت جدرانها باللون الأبيض فبدت لي أكثر اتساعا بعد أن طالتها يد التغيير،والحقيقة أن شقيق زوجي هو من قام بهذا التغيير فور علمه بموعد زيارتنا ، فأشرف على عملية الترميم والطلاء بنفسه ، ولا شك أنه أنفق على هذه العملية الكثير.
ترددت قليلا قبل الدخول إلى الغرفة التي حرمني ساكنوها من النوم وكادوا يفقدونني عقلي ذات يوم ، لولا أنني تمسكت برباطة جأشي وقاومت ألاعيبهم حتى غادرتهم بسلام .
الغرفة نظيفة .. لا أثر لأتربة أو خيوط عنكبوت ، شد انتباهي أثاثها الإيطالي الصنع الذي حل محل ذلك الأثاث الكئيب الموغل في القدم .
"إذن سننعم بنوم هادئ وهانئ" قلت محدثة نفسي ثم خرجت لأتفقد أحوال أبنائي.
كانوا يفرغون محتويات حقائبهم في الغرفة المجاورة لغرفة نومنا ، فيما جلس والدهم مع شقيقه جلسة حميمية مطولة بعد فراق دام أمد طويل .
غرفة الأبناء أكبر مساحة من غرفتنا ،هذا ما انتبهت إليه وأنا أتفحصها من الداخل بعناية فائقة ،لأنها كانت مغلقة طوال فترة إقامتي في الزيارة السابقة .
مرت الأيام الأولى بسلام حتى أنستني مرارة الأيام التي عشتها في هذه الشقة التي لا يعرف سرها أحد غيري، وفجأة بدأت الظواهر تتجلى لكن بشدة هذه المرة وعلى مسمع ومرأى من الجميع .
بعد حفل ليلي بهيج ، أقمناه بمناسبة عيد ميلاد أحد أبنائي ، وبعد انصراف الضيوف ذهبنا إلى غرف النوم مجهدين ، وبينما كنت أقوم بإزالة آثار المكياج عن وجهي ، سمعت صوت هدير ماء في الحمام ، توجهت إلى هناك فورا .. أغلقت صنبور الماء ثم عدت إلى غرفتي .
كان زوجي لا يزال مستيقظا ، طلب مني إطفاء المصباح ، وقبل أن أكبس الزر عاد الصوت ذاته ، فتوجهت إلى الحمام ثانية تعلو وجهي الدهشة ، وفيما كنت أحاول إغلاق الصنبور ، خيم على جسدي ظل كثيف ، ظننته ظل زوجي ، التفت .. هرب الظل .. صرخت .. لم يسمعني أحد ، فهرعت إلى الغرفة مرتعدة .
كان زوجي نائما حينها ، استلقيت على السرير وأنا أحاول استرداد أنفاسي التي هربت مني لحظة رؤيتي لذلك الظل العملاق.
لا أعرف ما الذي جعلني أستدعي جدتي في تلك الليلة لأصغي إلى أحاديثها التي مر عليها سنوات طوال.
كنا نلتف حولها ونصغي إليها بفزع وهي تتحدث عن البيوت المسكونة ، وعن (الطنطل ) الذي يخرج من الخرائب ليفزع الناس.
قالت إن هنالك مخلوقات تعيش معنا جنبا إلى جنب منذ القدم ، لكننا لا نستطيع رؤيتها، بينما هي ترانا بوضوح ، وإنها كما بني البشر ، فيهم الصالح والطالح .
" لماذا نظن أن أحاديث الجدات ما هي إلا تخاريف ، أو ثقافة جيل آمن بالخرافات ؟
ترى من أي الفئتين يكون هذا العملاق ؟ هل هو ضار أم نافع ؟ من أساليبه المروعة يبدو أنه ضار ، احفظنا يا رب "
صرخات مدوية .. ماما .. بابا ، آه .. ابنتي تصرخ ..
استيقظ والدها فزعا .. هرعنا إلى الغرفة المجاورة ،
قالت وهي تنشج :
ـــ ارتفع السرير إلى أعلى وكاد أن يلامس السقف ثم سقط فجأة على الأرض ،كيف حدث هذا يا أبي ؟ ما الذي حدث يا أمي ؟
ماذا أقول لهم ؟ هل أخبرهم بحقيقة ما يحدث وأصيبهم بالرعب أم أصمت ؟
فضلت الصمت على أن أتفوه بكلمة أجهل عواقبها .
حاولنا جاهدين أن نهدأ من روعها لكننا فشلنا وفشلت محاولتنا في تهدئة أخويها اللذين أصيبا بعدوى الخوف مما اضطرني إلى المكوث معهم حتى الصباح .
"هاهم قد عادوا مجددا .. أي مصير ينتظرنا في هذا البيت المشؤوم ؟"
تمكنت من تهدئة الجميع في تلك الليلة المروعة ، لكني لم أتمكن من تهدئة نفسي ،لأني كنت أخشى ما لا يحمد عقباه .
الأيام التالية تخللها بعض الهدوء ، فقد غادرنا الشقة صباحا ،متجهين إلى مدينة "ذهب" السياحية، وهناك تمكنا من محو ما علق في نفوس أبنائنا من فزع ،مما دفعني للقيام بمغامرة طائشة كادت أن تعرضني لأزمة صحية خطيرة بسبب ارتفاع ضغط الدم المفاجئ الذي بلغ أقصى درجاته أثناء توغلنا في مياه البحر الأحمر .
في البداية كانت الأمور تسير على ما يرام ونحن نقوم بمطاردة الأسماك الملونة المختلفة الأنواع والأشكال ، ونستمتع بمشاهدة الشعب المرجانية الرائعة الجمال ، ثم جحظت عيناي فجأة وشعرت بصعوبة في التنفس وقد تنبه لذلك أحد الغواصين الذين كانوا يرافقوننا، فقام بإخراجي من المياه على الفور ،ثم أجريت لي إسعافات أولية قبل أن يتم نقلي إلى المركز الطبي لأخضع لعلاج دام يومين متتاليين ، أصيب خلالها أبنائي وزوجي بالذعر وبتأنيب الضمير، لأنني قمت بتلك المغامرة المميتة نزولا عند رغبتهم ، أما أنا فقد تحاملت على نفسي وأصررت على مغادرة المشفى ، لأجنب أسرتي الخوف والقلق وأعيدهم إلى أجواء المرح التي كانوا ينعمون بها ، وقد تمكنت من ذلك بالفعل ،حتى أنني نسيت أو تناسيت قلقي من احتمال تعرضنا إلى ما هو أسوأ، إذا ما عاودت تلك القوى الخفية ترويعنا حال عودتنا إلى ذلك البيت المريب.
كل شيء على ما يرام ، الليلة الأولى مرت بسلام ، والثانية أيضا ، لا شيء سوى الحديث عن تلك المدينة الساحلية الجميلة والرغبة في الذهاب إليها مرة أخرى في أقرب وقت .
لكن هنالك شيء ما استرعى انتباهي في صباح اليوم الثالث ،وهو وجود الخيوط العنكبوتية التي تدلت من زوايا الغرف وسقوفها ،وقد أدهشني تناميها بهذه الكثافة خلال بضعة أيام.
قمت بإزالة الأنسجة العنكبوتية من جميع أركان البيت ،وطاردت بعض العناكب الفارة حتى قضيت عليها ، وبينما كنت أقوم بعملية التنظيف والإزالة ، لمحت شيئا غريبا كاد أن يفقدني صوابي ، ثوب ابنتي يحترق ، يا للهول ، من ذا الذي يريد إحراق قلبي ، كنت متأكدة أن مؤامرة ما تحاك ضدي ، لأنني المتسبب الأول في زعزعة أمن واستقرار تلك المخلوقات التي استوطنت ذلك البيت منذ أعوام خلت .
بهدوء وبحرص شديد قمت بإخماد النار التي التهمت مساحة صغيرة من ثوب ابنتي، لكنني بالتأكيد لم أتمكن من إخماد ثورة الفزع التي أصابت الجميع ، مما اضطرني إلى مصارحتهم والكشف عما أخفيته عنهم ، فقرر زوجي إنهاء الزيارة والعودة إلى بلادي ، لكن الأمر لم ينتهِ بعد ، فسوف تستأنف تلك القوى ما بدأته معنا بعد أعوام ، عندما قرر زوجي العودة إلى بلاده والإقامة في هذه الشقة بالتحديد .
سوف نتابع القصة وكأنني امام مسلسل تلفزيوني يعرض على شاشة الجدار الذي يطل امامي .... شكر لهذا الاسلوب الجميل استاذتنا العزيزة وطبت بمودة وأحترام ..... نترقب تكملة ما بدأت ... ونراعي توتر قلمك وأنت تداعبين خيوط العنكبوت بحذر
التوقيع
نكتب حينما نجوع .... لعل لفافة ورق تسد قرقرة أقلامنا
سوف نتابع القصة وكأنني امام مسلسل تلفزيوني يعرض على شاشة الجدار الذي يطل امامي .... شكر لهذا الاسلوب الجميل استاذتنا العزيزة وطبت بمودة وأحترام ..... نترقب تكملة ما بدأت ... ونراعي توتر قلمك وأنت تداعبين خيوط العنكبوت بحذر
اللأستاذ القدير سنان عباس
إنه لكرم كبير منك هذه المتابعة اللطيفة التي تسعد القلب
شكرا لحضورك البهيج وكلماتك المنتقاة التي تقطر عذوبة
تحياتي وتقديري ومحبتي
وعدت نفسي أن لا أقرأ عناكبك ولكن جمال حرفك وجرأة أفكارك وشجاعتك في مواجهة أناس من العالم الآخر شدّ فضولي فقرأت هذا الجزء وأنا هكذا
ليلى الغالية
هل تعرفين ليلى عندما كنت أحاول أن أرد على تعليقك
جاءت حفيدتي فأغلقت الصفحة فورا قبل أن تلمح الصورة وترتعب
قلت لنفسي الله يسامحك ليلى الصورة أكثر رعبا من القصة
ونسيت أن أكتب لك أن الحياة بكل ما تحمل من جوانب خفية
وظواهر قد يقف أمامها البعض موقف التشكيك
تستحق أن نغامر من أجل الحصول ولو على جزء بسيط من أسرارها
ومهما بلغت درجة جرأتنا أو مغامرتنا فلن نحصل إلا على جزء يسير من الحقيقة
شكرا لعدولك عن مقاطعة هكذا نصوص لأني قد ألوذ بك ذات خوف
لك التقدير كله والمحبة