فوق السرير ، ، أحكم شدّ الغطاء فوق رأسي في محاولة ٍ مني لبناء مُعتَزل أقابلك فيه ، أفتح عينيّ أحدّق في الظلام ، عندما تنعدم الرؤيا ينشط الخيال ويصخب الصوت ، تكّات الساعة تهدم ما أحاول تركيبه من بقايا ملامحك المتناثرة في عمق ذاكرتي ، كم تكّة ؟ واحدة ، اثنتان .. ثلاث ( هذا ما تعلمته من الأرقام حتى الآن ) ، لا مشكلة سأكرر مرةَ أخرى واحدة ، اثنتان ، ثلاث .. تكفيني هذه الأرقام الثلاثة لأعوامي الخمسة.
ستزورني الليلة أثناء النوم ، هذا ما أخبرتني به أمي قبل أن تضعني في السرير وتطبع قبلتها على خدي الأيمن ثم تتمنى لي أحلاما ً سعيدة، أحلاماً كبيرة ...لقد كبرتُ في غيابك يا أبي ، أدركتُ أنّ الدنيا لا تتّسع لحجمك مُذ همست لي أمي سرّاً بأنك : ( في حجم ِ الدنيا أو يزيد قليلاً )، اتخذتُ قراري بعدها : لا بدّ أن أحرص على حجمي ، سوف أتناول نصف وجباتي فقط وسأطعم القطة الرمادية نصفها الباقي، لكنني خلال الأيام القادمة بتُّ أتألم من ملامح الخيبة التي ترتسمُ على وجه أمي كلما قامت بطقسها الصباحي اليومي، ذاك الطقسُ الذي يلي قبلة الصباح ويسبقُ غسيل الوجه، تحملني ثم تضعني بجانب ذاك الجدار الذي رسمت عليه أرقاماً بشكلٍ طولي، تثبتُ رأسي بالجدار وتنظر إليه مرةً وأخرى ثم ترتسمُ على وجهها تلك الخيبة ، سألتها يوماً : لماذا تقيسين قامتي كل صباح ؟ .. صمتت بَرهة وأشارت إلى كتفها سألتني: هل يجاوره شيء؟ أجبتُ بالنفي، أحضرت مقعداً وطلبت مني أن أقفَ فوقه، ألصقَت كتفها بكتفي وقالت: أحتاجُ كتفك تطاولُ كتفي، تسندها وتدرأ عنها العواصف. لم أفهم معنى حديثها إلا أنني حرصتُ مُذّاك الحين على التهام وجباتي كاملة بعدَ أن حصلتُ على وعدٍ منها يقضي بمواظبتها على إطعامِ تلك القطةِ الرمادية..
لماذا تأخرت؟ أخاف أن يباغتني النوم أو أن تبدأ أمّي جولاتها الليلية قبل مجيئك .. سوف تقترب مني، تقبّل جبهتي، تزيل الغطاء عن جسدي ثمّ تضع أذنها على جهة صدري اليسرى، تحسبُ أنفاسي، تلمسُ وجهي تتحرك أصابعها عليه ، ترتّب حاجبيّ، تتأكد من وجود عيني في محجريهما، تقتربُ من أنفي تمسح شفتيّ ، تتخللُ أصابعها خصلات شعري ( أحبُ أصابعها تتخللُ شعري)، تعدّ أصابع يديّ تنتقلُ إلى أصابع قدميّ تعدّهم ..لماذا تزوجتَ هذه المرأة غريبة الأطوار؟ ..
في العيد أخذتني لمدينة ِ الألعاب البعيدة ( ليتكَ كنت معنا يا أبي ) لعبنا كثيراً كنتُ أرتدي ثياباً جميلة وحذاءً جديدا، فزتُ عليها في معظم جولات الألعاب الإليكترونية، لم تغضب، لا بل شعرتُ بالسعادة تغمرها، ذهبنا بعدها لمشاهدة الفرقة الموسيقية، كان الحصانُ يرقص بطريقةٍ مدهشة يصاحبهُ رجلٌ يلّف رأسه بعمامةٍ بيضاء ويحملُ عصاً بيدهِ يلوّح بها على أنغامِ عزفٍ ساحر، لم يكن حصاناً حقيقياً إذ أنه كان يرتدي حذاءاً رياضياً .. احذيةً رياضية!، ولم يكن الأسد كذلك .. لكنه كان لطيفاً يسلّم على الأطفال أثناء الحفلة ، اقترب مني مسحَ على رأسي وابتسمَ لي ثم أكمل سيرهُ نحو بقيةِ الأطفال ، بقيتُ أتابعه إذ أكملَ ثم بدأ بمشاركةِ الرجل والحصان رقصهما ، غصّت الساحة ببقية الأطفال فوقَ أكتاف آبائهم ، كانت الدهشة ترتسمُ على ملامحهم ، بعضهم يرقص محمولاً فوق الأكتاف، بعضهم الآخر يقفُ ببلاهة بجانب الأسد من أجل الإحتفاظ بهذه الذكرى من خلال صورة، جالت عيناي في المكان ، لاحظتُ أنني كنتُ الطفل الوحيد الذي بقي جالساً فوق مقعده، نظرتُ إليها وقلت: حضن الأسد دافئٌ وناعم ، قالت: اذهب واحصل عليه. . فذهبتُ .. وحيداً ضعيفاً وقصيراً ، كدتُ أتوه بين السيقان الطويلة الملوّنة ،والقوية القاسية ، كنت أتأرجح بينها، تارة في الجهة اليمنى وتارة أخرى نحوالجهة اليسرى ، يزداد الصخب ويرتفعُ صوت الموسيقى، يركلني أحدهم فأسقطُ على وجهي أشعر بالألمِ والبرد الشديد فترتجفُ أوصالي، أرفعُ رأسي أتلمّسُ وجودها ..ما زالت مكانها فوق المقعد الخشبي تتابعني بينما مظاهر الجديّة البالغة ترتسمُ فوق ملامحها .. كانت تظراتها ترمقني يصدرُ منها صوتٌ عميق يردد : اذهب واحصل عليه .. حددتُ مكانه واتجهتُّ نحوه بإصرار، حضنهُ هو كل ما أتمنى كي أنعمَ بالدفء .. إزدادت الركلات ضراوة وطالت المسافة بيننا، كدتُ أسقط للمرةِ الثانية لكنني فوجئتُ به يتجه نحوي هذه المرّة، ركضتُ نحوه ولذتُ بأحضانه، غمرني الدفء وذاك الشعور بالنعومة ، التصقتُ به أكثر نظرت حولي كانت نظرات الغبطة تنطلق من عيون الأطفال حولي، تلفتّ بحثاً عنها ...راعني أنها كانت تبكي شلال دموع، يا إلهي .. هل يُعقَل أنها كانت تطمعُ بدفء أحضان الأسد أيضاً ؟!.
لماذا تأخرت ؟ أخبرتني أمّي أنك ستأتي لزيارتي الليلة بِ (الحلم ) هذه الكلمة تثير دهشتي، في الأمس زارتنا جدتي أم والدتي وعندما همّت بالمغادرة أصرّت أمّي على إيصالها للبيت بعد نقاش طويل فهمتُ منه أنّ جدّتي تخاف عليها من قيادة السيارة في هذا الجو الماطر، عندها تبرعتُ بإخبار جدتي أنّ سيارتنا التي (تجيد الكلام) وصلتنا كهدية من الفضاء الخارجي، ثم شرحتُ لها أن لا تشعر بالقلق إذ أنها متينة ولا يؤثر فيها سوء الأحوال الجويّة، فغرت جدتي فاها بعد أن سألتني عمّن أخبرني بهذه المعلومة فأجبتها أنّ المعلومة مؤكدة إذ أنّ أمّي هي التي أخبرتني بهذا .. شعرت بغضبها الشديد ثم أندلع ما يشبه الشجار بينهما التصق منه بذاكرتي تلك العبارة : لا أعلّمهُ الكذب، لكنني أهديه القدرة على صنع الأحلام، أهِبهُ طوق النجاة من براثن اليأس، لا أملكُ إلا الحلم أمام بشاعة الموت.
لم تأتِ ؟ تاخرتَ كثيراً يا أبي ..صوت الديك (كوكو كوكو ) يوقظني، يعبث الضوء في ألعابي ينثرها، أغادرُ سريري مسرعاً نحو دفتر الرسم وألواني فوق المنضدة .. أصنعُ حلمها، ألونهُ ثم أهرعُ نحو غرفتها أتسلقُ سريرها وأطبع قبلةً فوق خدِّها ، تفتح عينيها فتبتسم لوجودي .. أباغتها بعرض اللوحة أمام ناظريها تهتفُ بسعادةٍ : رائعٌ هذا الأسد ومُتقَن ، أضيفُ بفخر : ودافئٌ أيضاً يا أمي هو حلمكِ خذيه .. تحضنه ثم تشرق ابتسامة من بين دموعها بينما تستمع لاقتراحي بالبدء بطقسها الصباحي المفضل إذ أنني أستطيعُ الجزم أنّ عدة سنتيمترات أضيفت إلى طولي هذه الليلة .