ابتدأ موسم القنص .. والتأم شمل القناصين على مقربة من الطريق المؤدي للغابة الكثيفة الممتدة على مد البصر . يقهقهون وهم يدخلون آخر اللمسات على أسلحتهم النارية .. أذهانهم شاردة لكنها تلتقي عند هدف واحد ، الفوز بالظبية التي استعصت على كل قناص يغامر بمطاردتها .. في نفس كل واحد منهم توجس وخيفة من أن تكون هذه الظبية لعنة على كل من يفكر في قنصها .. لكن روح التحدي طغت على الجميع واندفع الرجال بخطى ثابتة ليوغلوا بين الأشجار حتى لم يعد يسمع منهم سوى تلك القهقهة التي ربما يبددون بها هذا التوجس .
رافقتهم تلبية لدعوة من قريب لي رغم أني لا ناقة لي ولا جمل بالقنص .. حرصت على أن أراقب حركاتهم ونظرات عيونهم .. اعتراني شعور بالرهبة لما بدا لي منها من قسوة إن لم أقل وحشية .. لو تعلق الأمر بحيوان مفترس لاعتبرته مقارعة الند للند . لكن أن يكون هذا التصميم وهذا التحدي يخص ظبية وديعة، فإني لزمت الصمت مشمئزا بعض الشيء .
تمثل لي منظر الظبية بوداعتها ونظرة عينيها الهادئة .. قد تكون أما وقد تكون على وشك الولادة .. المهم أنني كنت أشعر بقلق يكبر كلما توغلنا أكثر في الغابة وبدأ صياح القناصين يستنفرون الوحيش عله يغادر جحره .
تعمدت أن أبطئ الخطو حتى أتملى بمنظر ما حولي من أشجار ونبات .. ولذ لي الاستلقاء لحظات بين الأعشاب ..
التفت الي رفيقي ضاحكا :
- هنيئا لك يا صديقي .. لا قنص ولا تعب .. لا تتأخر باللحاق بنا فلن نعود من هذه الطريق .. وإذا شاهدت شيئا ما عليك إلا المناداة أو الصفير ..
- حسنا .. لكن لا تقلق .. فأنا أعرف الطريق ..
هل كنت في تخلفي عن الركب أمنع نفسي من رؤية الظبية مضرجة بالدماء ؟ قد يكون هذا صحيحا مع هذا الشعور بالغثيان وأنا أتخيلها جثة هامدة وقد تخضب وبرها بالدم ..
في تلك اللحظة تناهي إلي صوت حفيف ورق الشجر .. التفت عن يميني .. كانت هناك تقف في جلال .. صيحات القناصين من بعيد تزيد من اضطرابها البادي في عيونها الجميلتين وفي التفاتها .. كانت هي كما وصفوها لي .. بنية اللون مائلة للصفرة .. صدرها أبيض ناصع .. وقد رسم على طول وجهها خطان أسودان .
لم أتحرك وحاولت ألا يبدر مني ما يجعلها تنفر .. فإلى جانب خشيتي من أن تثير انتباه الرجال كانت فرحتي كبيرة بقربها مني .. واعتبرت ذلك فوزا لي ..
نظراتها الي يشوبها حذر .. لكن جمودي يعطيها ثقة وطمأنينة . هاهي تقترب مني رويدا رويدا . تحني بخطامها إلى الأرض تتشمم ثم ترفع رأسها عاليا وأذناها تتحركان في كل الاتجاهات .
مددت يدي بحذر فأجفلت قليلا لكنها بقيت بالقرب مني .. اقتلعت بعض الأعشاب وقدمتها لها بحركة بطيئة .. فتشممتها لكنها لم تأكلها .. كانت فرصة لي للمسها .. وكأنها استلذت لمسي فأخذت تحك عنقها براحتي ..
"آه ما أجملك أيتها الظبية البهية .. كم أشعر بخوفك ، وكم أحس بأنني مسؤول عنك وعن سلامتك .. لكن لا تخشي شيئا ، فقد بددت وحدتي ومنحتني ثقتك .. وعلي أن أحميك . ستكونين من اليوم ظبيتي ، وسأعود كلما سنحت لي الفرصة لأبحث عنك .
لم أدر كم لبثت أناجيها حين رأيتها تجفل لصياح قريبي على مقربة مني ، وتركض نحو الأدغال .. لكن قبل أن تختفي ، توقفت في إباء والتفتت .. أحسست أنها تكلمني .. هل تشكرني أم على العكس من ذلك تعاتبني ؟ ربما تشك في أنني متوطئ مع الآخرين بغية الإيقاع بها .. لكني كنت أرى نظراتها تدعوني للعودة يوما ما ، قبل أن تختفي .
- لازلت هنا ؟ .. ألا تريد الاستمتاع بمنظر القنص ؟
- أنت تعرف أنها ليست هوايتي ، ثم من قال لك إني لم أستمتع ؟ .. لكن قل لي ، هل ظفرتم بما تبحثون عنه ؟
- تعني الظبية ؟ .. اللعنة .. أذاقتنا المر ولازالت شاردة وكأنها شبح .
ضحكت في سري وأنا أنظر ناحية الأدغال حيث اختفت الظبية وتخيلتها هناك تنظر إلي . في تلك اللحظة التحق بنا باقي الرجال وهم يحملون طرائد عديدة .. لكن الوجوه كانت محبطة ويعتريها الوجل .
في طريق العودة كنت أترنم وأنا أتبع فريق القناصين المهرولين نحو القرية وكأنهم يستعجلون الوصول لإخفاء
فشلهم في قنص ظبية استعصت على الجميع . ومن جديد تباطأت في المشي حتى لم أعد اسمع سوى همهماتهم ، ووقفت على تلة تشرف على الغابة الفسيحة أمعن النظر لعلي ألحظ شيئا بنيا يتحرك .
منذ ذلك اليوم ، صارت هوايتي التوغل في الغابة مقتفيا آثار الظبية الشاردة ، بعيدا عن كل الأعين ، ممنيا النفس بلقائها .
أن تفوز بقلب مفعم بالمشاعر النبيلة خير من أن تقتنص ظبية رغما عنها .
سعيد بمرورك سيدة النبع الأولى وأتمنى أن أكون دوما عند حسن ظنك .
مودتي التي لا تبور.
القصة عميقة المعنى جميلة العرض لا تترك فرصة للتخلي عن متابعتها لنجاحك في تسلسل وتركيب الحدث
ولم تترك مساحة للملل في تكرار الفكرة .
تقديري لهذا الأسلوب الجميل وأظنك ستتفوق كثيراً
في استحداث أفكار جديدة لتماسك النص عندك ايها القدير / وقار
الكريمة الغلية وقار ..
اشكرك من كل قلبي على ما تولينه لنصوصي من عناية وما تلقاه منك من تجاوب ..
سارقب دوما مرورك من هنا وأعتبر شهادتك وساما أعتز به .
ودي وورودي .