(1)
تعرف سجدة الصلاة، وإن كانت لك بعض ثقافة إسلامية فإنك ستعرف سجدة التلاوة وسجدة السهو، وإن زادت ثقافتك فإنك ستعلم سجدة الملائكة لآدم التي كانت تعظيما، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29]، ولا بد أنك سمعت قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، وقوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120].
وغير ذلك من السجود الشرعي، لكن هل سمعت قبلا بسجود الشعر؟
أنا لم أسمع به قبلا إلا عند قراءتي كتاب "قضايا حول الشعر" للدكتور عبده بدوي، في جزئه الأول نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1992، في هامش 47 ص44- حين قال: "يلاحظ أن ما يسمى بالسجدة الشعرية كان يتم للبراعة في التشبيه، فقد سجد الفرزدق حين سمع:
وَجَلا السُّيولُ عن الطُّلول كأنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها
وهناك السجدة المعروفة لعدي بن الرقاع حين قال:
تُزْجِي أَغَنَّ كأنّ إبرةَ رَوْقِه ... قلمٌ أصاب من الدَّواةِ مِدادَها".
هكذا أورد الدكتور المعلومة كأنها حقيقة لا نقاش فيها من دون عزو أو نسبة، ثم نسب الأمر ص111 إلى كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي، وكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني.
(2)
ولاستبشاعي الأمر، ولمعرفتي أن النقاد لا يهمهم أمر تحري الأمر الشرعي- بحثت في "طبقات فحول الشعراء" فلم أجد شيئا من ذلك، وبحثت في ديوان "عدي بن الرقاع" فلم أجد ذلك.
وبحثت في "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، فوجدت خبر الفرزدق على النحو الآتي:
"أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني محمد بن عمران الضبي قال: حدثني القاسم بن يعلى عن المفضل الضبي قال: قدم الفرزدق، فمر بمسجد بني أقيصر وعليه رجل ينشد قول لبيد، كامل:
وَجَلا السُّيولُ عن الطُّلول كأنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها
فسجد الفرزدق. فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر".
ولم أجد خبر عدي بن الرقاع، إنما وجدت "أخبرني الحسن بن علي عن هارون بن محمد بن عبد الملك عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: قال جرير: سمعت عدي بن الرقاع ينشد:
تُزْجِي أَغَنَّ كأنّ إبرةَ رَوْقِه ...
فرحمته من هذا التشبيه، فقلت: بأي شيء يشبهه ترى؟ فلما قال:
قلمٌ أصاب من الدَّواةِ مِدادَها
رحمت نفسي منه".
(3)
فخلصت إلى أن هذه كذبة من كذبات أبي الفرج؛ فقد ذكر أمر السجود في مواضع فاحشة في كتابه مما لا يليق الإشارة إليه. ولزمني التنبيه إلى ذلك حتى إن صادف الأمر أحد الناس مرويا بصيغة التسليم كما ورد في كتاب "قضايا حول الشعر" لا يغتر بذلك، ولا يقبله.