في صالة المطار الفارهة ، والطائرات تبدو من النافذةِ كالرخّ يأتي ويحط الرحال ليحقق أسطورة لم تتعدَ يومًا بحر الخيال .
يجلس كلاهما بصمت ، لا يقدم أيهما على النظر في عينيّ الآخر ، حتى لا تنهار الحواجز التي تعاظمت رغم اللقاء المنتظر .
يبادرها الحديث ليكسر حدة الصمت :
- سأشرب شيئا مثلجًا ، ما رأيك ببعض العصير ؟
تومئ برأسها إيجابا ثم تهمس بصوتٍ خافتٍ تخشى أن يسمعه :
- ستفوتني الطائرة .
يبتسم .. ويطلب العصير ويعود سريعًا للطاولة ، ينظر لعينيها :
-أضعتُ لأجلك مشوار حياتي كلها ، لن تكون كارثةً لو فاتتك من أجلي رحلة واحدة .
-لا تبدأ باللوم ، أرجوك ، لقد بادرت بالرحيل قبل أن تمنحني فرصةً لأسمو بذاتي وأتخذ قرارًا حاسمًا يصنع المعجزة .
- لم يعد اللوم مجديًا ، فقبل الرحيل دستِ بقدميكِ كل سنبلةٍ نبتت على جانبي القلب ، وكأنكِ تخشين تعاظمها !.
- كنت تمثل دور الولد العابث ، تلهو في غابات الحياة ، تعشق الموت والخطر ، وتصنع أفخاخ الكلام ، وحين جابهت ذلك ، هزمتُ أمامك .
- ماذا تريدني أن أفعل الآن بعدما أوغلنا في الرحيل ؟
- لا شيء .
- أتذكر مرةً حين قلتَ لي : نحن من نصنع النقصان في الأشياء والأماكن ، وكنت أنا الشجرة وأنت الأرض الخصبة المعطاءة ؟
- لم أعد كذلك .
- بل أنت كذلك ، لا تجادل ، أنت تكابر كعادتك لئلا تعترف بوجوب الرحيل رغم هذا الحب .
- لم أعد أقوى على الجدل .
- هل يجب أن أنتزع اعترافك انتزاعا ؟
يبتسم بشيء من سخرية حزينة
- ستمارسين دور المحقق العربي إذن ؟
- بل سأتركك تعترف وحدك بما تريد .
- أأعترف بما دوّنته منذ أعوامٍ لديكِ ؟
- التهمة جاهزة ، الحكم جاهز ، والزنزانة أيضا ... يا حبيبي .
- قوليها ثانية .
يحمر وجهها خجلا
- لا تعبث ، أكمل فالوقت يداهمنا .
- قلتُ ما لديّ ، كل ما لديّ ، فاحكمي بما شئتِ .
- ليس قبل أن تعترف .
- لن أعترف إلا بما شاء الهوى .
- سأنتزعه من قلبك إذن .
- ها أنتِ تمارسين دور المحقق العربي بجدارة الآن .
- وماذا يفعل المحقق غير العربي ؟
- المحقق غير العربي يباشركِ بما لديه ، ثم يسمعك ، ويرى ردة فعلك ويتعامل من خلالها .
أما المحقق العربي فيكون لديه كل شيء عنك ويطلب منك أن تخبريه بما لديه ، فلا ينال شيئا جديدًا ذات أهمية .
- حسنا ، سأمارس دور المحقق غير العربي .
تُعدّل من جلستها ، ترتشف بعض العصير مشيحةً بوجهها للناحية الأخرى خشية أن يعلق كعادته بشيءٍ يجعل وجهها يحمر خجلاً ، وقلبها يخفق حبًا .
- لنبدأ إذن ؟
- يجيبها بابتسامة .
- طبعا بكل أدب واحترام سأطلب منك الجلوس
هل أعزمك في التحقيق على فنجان من الشاي ، أم أن الأجانب لا يفعلونها ؟
-ممكن جدا
-وما السكر ؟
- حضورك .
- ....
- أتأذن لي المحققة قبل الكلام بإجراء اتصال هاتفي ؟
-بمحامٍ للدفاع ؟
- بل بحبيبتي .
- وماذا ستقول لها ؟
-سأخبرها أنّي سأعترف .
- حسنا ، لك ذلك .
يمسك بالهاتف ويطلبها ، فتجيب ، فيبدوان كمجنونين :
-حبيبتي ، أنا بين يدي المحقق ، يطالبني باعتراف واضح بشأنك ، أتسامحينني إن أخبرتهم عنكِ وعن هوانا ، وأخبرتهم عن وخز البنادق التي قطعت طريق اللقاء ، وتقاليد النخاسة ، وحدود النزيف ؟
- إن كان في ذلك نجاة لك ، فافعل .
- لكي أنجو فحسب ؟
-وأشياء أخرى .
- أأخبرهم عن لوعة السفر ، عن جنون العاشقين ، والاحتراق في لظى البعد والأشواق؟.
- أخبرهم عن حرقة قلبي في غيابك .
-أأعترف بكل ذلك ؟
- اعترف ، وسأعترف بدوري أنّي من حرّضتهم على انتزاع اعترافك .
-لن أعترف ، لأني فعلت أجمل ما يمكن ارتكابه .
-أحب ارتكابك لكل شيء ، أحبك حتى في خطاياك .
صوت أنثوي هادئ يقطع مناجاتهما ، يعلن عن اقتراب موعد الإقلاع .
-يهمس : ستفوتك الطائرة .
- إنّي مسافرةٌ لديك ... وارتخت يدها الممسكة بالهاتف .
بقي في مكانه متسمرًا ، تقتله اللحظة ،ويقتله الانتظار الطويل الذي يتربص بقلبه.
كفكفت دمعًا سال على وجنتيها ، حملت حقيبتها الصغيرة ، ومضت نحو مجهول.
طارت في السماء وتركت له قلبها ، جواز سفر .