جذبه صوت الطفل في الغرفة الأخرى حين سمعه ينبح دون توقف،سأله عما يفعل فأدعى بأنه يحاول أن يحفظ الدرس،ظن إن ما يقوم به عبث طفولي لذلك سحب من يده الكتــــــاب وطلب منه بلطف أن يسمعه ما حفظ،وبفرح غامر تعالى نباح الطفل،وبخه وأمره أن يذهب للفراش،ومضت الليلة والطفل لا يتوقف عن تكرار قراءة الدرس حتى في منامه،تكـــررت الحالة حتى باتت تقلقه فذهب سرا إلى المدرسة وهناك كان المعلم يجهر بصوته داعيــــــــا التلاميذ أن يرددوا من بعده درسهم الأزلي...(دار... داران... دور)*فيردده التلاميذ بصوت صاف كبراءة أعمارهم،انتظر في المنزل عودة الطفل ليسبر غور طفولته المضطربــــــــة ويبلغه عن زيارته السرية وما سمعه من الدرس وما كان يقرأه المعلم ويردده التلاميذ،لكــن الطفل أكد بإصرار أن المعلم كان يأمرهم بالنباح وحين اعترض البعض تمادى وأمـــــر أن يكون درس النباح هو أساس المناهج الدراسية وان إتقانه هو من مقومات الرجل الناجح لأنه لغة العصر،كان يتوقع إن الإشكالية التي تواجهه خاصة جدا حيث لا تتجاوز راس ابنه وبيته الصغير،ولكن سرعان ما اكتشف بان النباح قد صار ظاهرة اجتماعية وحضارية يتمســــك الكثير بتقاليدها،التلفاز كان يعرض في إحدى محطاته شاعرا ينبح قصيدة من البحر الطويل ،وفي الأخرى مسلسل أجنبي دبلج إلى اللغة النباحية،وفي الأخرى مطرب شاب يدعـــــــي التلفاز بأنه من رواد الأغنية النباحية،وفي الأخيرة مطرب عتيق ينبح وصلة غنائية علــى مقام(ألحكيمي)،هاله توغل النباح المريع فقد التهم حتى عناوين الكتب المعروضة فــــــــي المكتبات: (لمن تنبح الكلاب)،(مائة عام من النباح)،(الحب في زمن النباح)،(طبقـــــــــات الكلاب)،(نباح في صدري)،(مديح الكلب العالي)،(نباحي)،(الفتح الوهبي على نباح الكلبي) (سنين من النباح)،في مقر عمله كان المدير ينبح بشدة داعيا الموظفين لبذل المزيد مـــــــن وبينما كانت السماء تنذر بمطر غزير اشترى كل شيء،ذلك لأنه كلما مر ببائع يجده مكشرا عن أنيابه وينبح غاضبا فيجعله مضطرا للشراء،بعد مخاض النباح الذي عانته السماء نزل المطر،وعاد هو إلى البيت مسرعا وردد بنباح واضح:
ـ نبحت السماء...نبحت السماء
نبح ذلك حين رأى زوجته تحمل كتابا وتنبح بنشوة عارمة وينبح الطفل بعدها،عوى بحرقة لا لأنه قد صار يتهجى النباح بل لأنه كان عاجزا أمام مد عولمة النباح التي جعلت المعلمين من أغنى شرائح المجتمع،حيث انهالت عليهم جموع من شرائح عديدة تطلب دروســـــــــا خصوصية بالنباح وبأي ثمن وذلك لان التعاليم الاجتماعية والاقتصادية تؤكد بأنك لن تنال النجاح ولن تمسك بناصية النقود دون تعلمك فنون النباح،وطالب بعض علماء الاقتصـــــاد واللغة بإعداد مناهج موسعة لدراسة النباح منها ما يخص الاقتصاد ألنباحي والآخر يخص قواعد اللغة النباحية،إذ صنفت هذه المفردة على أنها مصدر يخص الفعل الأساسي حتـــــى صارت تصرف نباحيا على إنها من(نبح...ينبح...فهو نباح)،وما زال علماء وفقهاء النبــــاح في جدل طويل لإعداد تصنيف جديد للمنبوح له وهو ذلك الذي يسهل عملية صعودك السلــم الاجتماعي والمادي،والمنبوح فيه وهو ذلك الذي يعتقد بأنه الآخر الذي يحاول سلب مركزك ،وكذلك المنبوح به والذي يصنف اجتماعيا واقتصاديا على انه من ألاميين في مجال علـــــم النباح لذلك صار يفتقر لمقومات الكلب الناجح.
أمام هذه الإرهاصات النباحية عوى ثانية وفكر في النباح ومن روج له،لذلك خاف ونبح في سره وقرر أن يكون المروج للنباح أقذر من أن يكون...محض كلب.
***
(*)من دروس القراءة الخلدونية
القاص المبدع مشتاق عبد الهادي
محبتي
اهدي باقة من العواء الجميل للكلاب التي لاتجيد النباح
كم رائع وصفك للنباح ..هذه الفنطازيا الجميلة بهذه اللغة الجميلة
زاد من قيمة النص المعرفية والميتافيزيقية ..شكرا على التنوع في
لغة القص ....