كان يرفض دائما نزوح عائلته من العاصمة بغداد رغم اشتداد القصف الجوي عليها وشمل الأحياء السكنية منها وانقطاع الماء والكهرباء وكل سبل الحياة الطبيعية.كان يعتقد البقاء في بيتهم اخف وطأة من النزوح ولكن. سيطر الرعب على اطفاله من شدة القصف العشوائي لبغداد وفي اخر اتصال له معهم..شعر ان وجود حل..يستدعي تواجده..لتخفيف حالة الرعب لديهم...
أستأذن من مرؤسيه..يومان للذهاب لعائلته فقد مضى اكثر من ثلاثين يوماً لم يزرهم..ورغم بعد المسافة..فوحدته العسكرية في البصرة في الدريهمية..وعائلته في بغداد..
وصل فجرا..مع زملاء له..فشحة الوقود لا تسمح لكل منهما عجلة.. وجد عائلته في رعب مروع.. بالأمس قصف مقر للدفاع المدني وهو قريب لبيته..وجد اطفاله في حالة ذهول غريب..استقبلته الصغرى ..وهي تشكوه رعبها..وتخبره باحلامها المرعبة..وتشرح له كيف صديقتها وامها وهي مارة قرب الدفاع المدني كيف تناثرت اشلائهما ورغم ان هذا المقر ليس عسكرياً ..بل هو للاسعافات الطارئة من حرائق وكوارث طبيعية ولكن في نشرة الاخبار المضللة ..تم قصف مخبأ للمواد الكيمياوية..
لم يكن امامه الا الذهاب للريف حيث طفولته وموطن اهله..فأخته من ابيه هناك..وقسم من ابناء عمومته..وهكذا اخذ عائلته..وكل الذي اخذوه معهم..ملابسهم..وحاجياتهم الأنية..
حين وصل القرية تفاجأ بأن القرية مكتظة بالنازحين من العاصمة..منهم اقرباء ومنهم غرباء والقرية في نفير..انساني..فالعوائل النازحة للقرية
اكبر من أن تستوعبها بيوت القرية.. هناك من افترش الارض العراء..وهناك من استظل بالبساتين..اضافة لما استوعبته بيوت القرية..
عاتبته اخته..-كان يجب ان تجيء بهم قبل هذا الوقت..لم يجد لها جواباً..
لم يكن له خيار..فقد كان بيت لابن اخته مقابل بيتهم بيت قيد الأنشاء ,بيت يفتقد كل معايير السكن,بيت تخترقه الرياح من كل صوب, وارضه الترابية زحفت اليها الرطوبة من اثر المطر,لا شبابيك ولا ابواب..بيت لم يمتلك من اسمه الا الطابوق وجدرانه وسقوفه الأسمنتية..لم يكن امامه الا القبول به..ولم يكونوا وحدهم فيه..فقد حشر معهم عوائل قريبة لهم..أستقر الحال بهم هناك..وكانت لمحه انسانية رائعة ..تقاسم الجميع الافرشة والمأكل..واستنفر الصغار والكبار..فغطت الشبابيك بالأقمشة كذلك الأبواب..ولما لم يكن هناك مواد تدفئة..لم يكن امامهم الا الاشجار اليابسة..
من الطبيعي جداً ان تكون هناك معاناة في المعيشة ..فعائلته تربت في العاصمة وترفها وزوجته من العاصمة ..حتى هو..لم يعرف من الريف الا ذكريات قسم منها شيء من الحلم...
زوجته كانت في شهرها الأخير..وكان ينتابه شعور ما..بأن المخاض قد يأتيها في أي لحظة فقد ولد كل اطفاله في زمن الحرب ..وكانت ولادتهم تتم في اليوم الأخير لأجازته..ربما هو جانب نفسي يجتاح زوجته ويعجل بولادتهم..ولكنه كان يحرجه..فعليه البقاء معها..ولكن سيرته وموقعه كان شفيع له دائما لتأخره.... حزم حقائبه, فقد حان موعد قدوم العجلة التي ستقله لوحدته العسكرية... ها قد وصلت العجلة بموعدها..دخل الى زوجته وأولاده مودعاً..وعندما هم بالخروج..سمع صوت زوجته الخافت..لا تذهب...فقد جاء المخاض..
لم يتفاجأ..بل كان يتوقعه..ولم يكن امامه الا ان يبقى...كان يعلم ان الظرف العسكري لا يسمح له بذلك ولكن لم يكن امامه خيار..كان من الصعب عليه التأخر في الألتحاق..وخاصةً هو جزء من الهرم القيادي في وحدته العسكرية..رغم انها فنية هندسية مساندة لكن هذا لا يعفيه من التواجد..فكل الأخبار والمؤشرات اللوجستية تشير الى ان الهجوم البري قادم بعد ان قطعوا أوصال العراق من طرق برية ومنشأة وبنى تحتية..ولكن امامه الا الأسراع في نقل زوجته للمشفى في القضاء لان القرية تخلوا من مركز صحي او مشفى..
في المشفى لم يكن الا طبيبة مقيمة..وعاملة خدمة..والظلام الدامس يلفها, الا من فانوس صغير يكاد ينطفيء لقلة النفط فيه..
كان المخاض في أوجه.أدخلوها لصالة الولادة والمشفى اسمه هكذا والصالة اسمها هكذا فهي لا تملك الا الأسم..
خرجت والدته وتبعتها اخته..وهما في حالة انشراح..مبروك..جاءتك عروسة أمورة..تمتم الحمد لله..ما أعطى..
لم يخطر في باله أسمها..كان في قلق على زوجته والطفلة..ودخل اليها ..الحمد على السلامة..همست بصوت متهدج..أسميتها دعاء..دعاء لك بالعودة والسلامة..دعاء السلام...
فجر اليوم التالي حزم أمتعته وودع زوجته التي لم تزل تعاني من أثار الولادة،وطبع قبلة على جبين الطفلة المولودة(الأن هي طبيبة اسنان تزاول عملها ببراعة) وحاول ان لا يلتفت الى الوراء حتى لا يرى دموع زوجته النازلة بصمت وخوف.
أستقل سيارة أجرة الى بغداد حيث مرأب النقل للمدن الجنوبية كان المرأب يعج بالعسكريين،وصوت الباعة يختلط مع اصوات التوديع من الأهل لأولادهم،وهو يصعد الى الحافلة التي ستقله الى البصرة،كانت أمامه أمرأة طاعنة في السن تساعدها أمرأة في مقتبل العمر،فأبطأ في الصعود لحين صعودهما وكان مكان جلوسه خلفهم،أنطلقت الحافلة بعد أكمال مقاعدها من الركاب،مع عبور الحافلة أخر نقطة تفتيش في بغداد،أستسلم البعض للأغفاءة والبعض الأخر ذهب في احاديث جانبية مع من بجانبه، وهو ينظر من النافذة الى الأفق البعيد شعر بيدين مرتجفتين تربت على كتفه ولم يكمل التفاتته ،قرّبت المرأة العجوز وجهها منه وهمست له:
-ولدي أتعرف حازم!!
أصابته الحيرة ، من هو حازم؟
-ولدي..ولدي..التحق قبل ايام معكم في الجيش..
هنا تدخلت المرأة الأخرى
-لا عليك سيدي..فهذه المرأة أمه..وأنا زوجته ونحن ذاهبون للبحث عنه..
سألهم وقلبه يغلي حزنا على هذه المرأة الطاعنة في السن وعلى الأخرى التي علامات الأنكسار بادية على وجهها
-في أي وحدة هو...
أجابت الزوجة
-لا نعلم فقد التحق كجندي احتياط وقالوا لنا ان وحدته في الكويت في الفرقة(17) هكذا قالوا لنا .
شعر ان قلبه يكاد يخرج من بين اضلعه،هذه الزوايا الأنسانية في زمن الحرب ،حين تتفاعل معها تلعن الحرب،استمرت في الحديث
-لا يوجد احد لأمه فهو الوحيد فأخوه الأكبر استشهد في الحرب مع ايران في الثمانينيات واليوم التحق هو ولم يزل على زواجنا بضعة اشهر،قاطعتها المرأة العجوز
-لا نريد ان نثقل على الرجل ،وعادت توجه الكلام اليه وكأنها على يقين أنه يعرفه
-هو اسمه حازم..طويل القامة و..قاطعها وهو يحاول ان يكتم عنها الحزن الذي انتابه وحاول ان تكون أجابته تعطيها نوعا من الأطمئنان
-والدتي اعطني الأسم الكامل له وأعدك خيرا ولكن لي طلب فعودي والدتي لأنها منطقة حرب ومن الصعوبة ان تصلي اليه لم تقتنع، شعر من نظرتها اليه كأنها تلومه وتعاتبه، وشعر بنوع من الأحراج ، وفي غمرة أنفعاله قال لها
-والدتي اعطني عنوان نزلك في البصرة وسيكون ولدك بعد وصولنا بيوم ان لم يكن بساعات عندك
أنفرجت اساريرها ولم يشعر الا بيدين صلبتين ليس تلك المرتجفتين تسحبانه بقوة لتطبع قبلة طويلة على جبينه وتمتمت بصوت متهدج سنبقى في مرأب البصرة ونبيت فيه ..وعادت الى كرسيها لتذهب في اغفاءة طويلة.
يتبع