قاتمة تلك الليلة .. باردة .. مشحونة بالدخان ، تنذر بعاصفة مدمرة ، مجنونة أسقطت سنواتي في جب مظلم ليس له قرار ، ومضت دون أن تلتفت إلي .
قاس ومريع ذلك المشهد الذي كنت جزءا منه ، حملني هيكلي ، بل أنا دفعته إلى مسرح مقفر لألعب دورا رئيسيا يشاركني البطولة رجل ميت ،أنا الوحيدة التي تعرف سر موته .
تلك الليلة لم أنو الخروج ، لكن شيئا ما كان يدبر في مكان من الكون الفسيح ، ليجعلني الضحية .. مهلا .. هل أنا ضحية حقا ؟ أم إنني الجانية ؟!!
المطر .. البرق .. صوت الرعد ، ولدوا في أعماقي شعورا غامضا دفعني للخروج .
خرجت يرافقني هاجس مرعب لم أعره انتباها لأنني انشغلت بمداعبة حبات الماء المتناثرة ، التي أعادتني إلى زمن الطفولة والصبا ، تذكرت أشياء كثيرة كنت قد نسيتها، اندمجت مع الذكريات ، فساقتني قدماي إلى مكان يحوم الموت حوله .
لم أتردد في الصعود إلى الطابق الثاني ، رغم اتساع رقعة الظلام ، عاودتني الهواجس وأنا أرتقي السلالم قاصدة محل السيد حمدي ، سألت نفسي لماذا أنا هنا الآن ؟
حقا ما الذي دفعني للذهاب إلى هناك ؟ ليس ثمة ما يستدعي وجودي في ذلك المكان ، وفي ذلك الجو المضطرب ، ربما لأنني كنت بحاجة إلى من يفهمني ، وهذا الحلاق العجوز الذي أتم عامه الستين يعرف كيف ينتزع مني اعترافاتي ، فيزيح عن كاهلي كل الأعباء التي ترهق أعصابي ، كما أنه مولع بالثرثرة كغيره من الحلاقين ، وأنا بحاجة إلى أن أثرثر في تلك الليلة ، لذلك لذت به .
يالوحشة ذلك المكان ، إنه أشبه بمتاهة .. قطعت ممرا طويلا .. اخترقت العتمة مهتدية بالضوء الذي ينبعث من زجاج محله ، الباب مغلق ، لكني على يقين من أنه في الداخل فهو لم يعتد ترك الباب مفتوحا أبدا برغم أن محله يقع في ممر ضيق وليس هنالك من يجاوره على الإطلاق .
.. .. .. ..
أبواب الساعة الثامنة كانت تفضي إلى الجحيم ، أبواقها مازالت تنفخ في أذني ، إنها لساعة فاجرة ، خلعت عني ورقة التوت دونما حياء ، ثم وقفت تشهد انهياري .
تلك الليلة كنت أبحث دون أن أدري عمن أبث إليه وجعي ، لكنني سقطت في قاع آسن لوث اسمي وتاريخي ، يالهول تلك اللحظة ، ركضت .. صرخت .. تخبطت في الفراغ.
نزلت السلم ، لا لم أنزل السلم ، بل تدحرجت عليه ، فامتلأ جسدي برضوض وكدمات لم أشعر بها إلا فيما بعد .
استنجدت برجل كان يطوف في أحد الممرات ، إنه الحارس ، صعد معي .. دخل المحل بمفرده ، بينما وقفت أرتعد خوفا عند الباب .
باغتتني نظراته ، إنها كالحراب ، أما تعبيرات وجهه فزادتني رعبا فوق رعب .
اقتادني إلى مكتب مازالت أبوابه مشرعة ، في داخله يجلس ثلاثة رجال متدثرين بمعاطفهم ينتظرون انقطاع المطر بفارغ صبر .
رفع الرجل سماعة التليفون .. طلب الشرطة ، فاستفسر الجميع .
قال وهو يرمقني بنظرة حادة :
ـــ السيد حمدي ... مات
وثب الرجال .. ركضوا ليستطلعوا الأمر ، لكنه صاح محذرا :
ـــ لاتلمسوه ريثما تصل الشرطة ، فالوضع مريب .
توسلت إليه أن يدعني أذهب ، فلا ذنب لي بما حدث .
ـــ هل أنت مجنونة ؟ ألا تدركين خطورة الموقف ،على أية حال ، الأمر خرج من يدي والقرار سيكون لرجال الشرطة .
يطيب لي أحيانا أن أقرع نفسي وأقسو عليها ، لأنها أوقعتني في محنة لم تخطر لي على بال ، كان ينبغي أن أغادر المكان دون أن يلمحني أحد ، لكنني تصرفت بغباء فأثرت سحابة أمطرتني بوابل من الشك والظنون .
ثمة من يضحك .. ثمة من زحف بنظراته الوقحة على جسدي الذي بدا عاريا أمامهم وهنالك من أطلق للسانه العنان وراح يحدثني بشبق :
ـــ ماذا دهاك ؟ ألا تحسنين الاختيار ؟ ماذا أعجبك في ذلك العجوز ؟ هل يدفع بسخاء ؟
ها ؟ كان ينبغي أن تأتي إلى هنا ، أليس كذلك ؟
آثرت الصمت ولم أدافع عن نفسي .. لم أكذب ظنونهم ، فثمة مايمنعني ، كما أن الهيئة التي مات عليها الرجل تتهمني ، لقد كان عاريا تماما ، وعيناه متعلقتان بشئ ما في فضاء المكان ، لم أفعل شيئا مما رموني به ، لكنني لست بريئة ، رغم أن الشرطة قد أطلقت سراحي ، لأنها لم تجد مايبرر حبسي .
تسرب النبأ إلى جميع أرجاء الحي ، وإلى الأحياء المجاورة ، ما إن أطل الصباح .
لم أحزن على نفسي قدر حزني على الفقيد ، فلقد اتهمه الناس بالباطل وراحوا يلوكون سيرته بألسنة لاترحم ، حتى زوجته لم ترحمه ، وأبت أن تقيم له العزاء ظنا منها بأنه مات وهو يمارس الرذيلة .
لم يصدقني أحد ، الجميع أداروا لي ظهورهم ، بمن فيهم زوجي الذي صب علي لعناته وجردني من جميع حقوقي .
الهروب هو الحل الأمثل للتخلص من جحيم الآخرين .. نفيت نفسي بعيدا .. ذهبت إلى أقصى الجنوب .. عشت مع خالتي المسنة ، وضحت لها الحكاية أكثر من مرة ، لكنها لم تصدقني هي الأخرى .
لماذا لايصدقونني ؟ لماذا يصرون على تكذيبي ؟ أنا لم أرتكب فعلا مشينا كما يظنون ، لكنني اقترفت ذنبا أفظع ، لقد تسببت في موت الرجل ، نعم أنا السبب في موته ، رغم أن الكشف الطبي أكد أنه مات بالسكتة القلبية ، أنا السبب ، نعم أنا من تسبب في إيقاف نبض فؤاده .
كان ينبغي أن أطرق باب المحل قبل الدخول عليه ، لكني لم أفعل ، وما أن رآني حتى أصابه الهلع .. اكفهر وجهه وانتابته رعدة عنيفة .. لقد فاجأته .
كان عاريا تماما ، يقف تحت عمود الماء المنساب من صنبور معلق في سقف حمام ليس له باب .
ولست أدري ما الذي جعله يستحم في تلك الساعة المشؤومة رغم برودة الجو ، أهو قدره أم قدري ؟!
ظللت للحظات أتابع حركته المضطربة وهمهماته المكتومة ، يبدو أنه أراد أن يوبخني لأنني اقتحمت المكان دون استئذان ، حاولت أن أعتذر له ، لكنه سقط مغشيا عليه ، أو هكذا ظننت .
كلما استعدت الماضي زاد سخطي على الحياة.. على البشر.. وعلى نفسي أيضا.
مرت أعوام وأنا أعاني من الإحساس بالذنب تارة ، ومن المصير الذي صرت إليه تارة أخرى ، خسرت كل شىء، وسمعتي هي أفدح خساراتي ، لقد خسرتها دون جريرة مني وبرغم تقدم العمر ، مازلت أبحث عمن يصدقني ، لاأطمع الآن إلا في إيجاد من يصدقني ، هل صدقتموني ؟ ...................... أرجو ذلك .
ما أروعك..ذاكرة متسلسلة وأفكار مُرتبة وحالات من الرعب والقدرية التي لامناص منها !! لكني اصدق هذه المرأة التي فقدت كل شيء..الجميل هو طريقة التعبير عن لسان المرأة هنا..شكرا سولاف..كاتبة وحرفية حقيقية.
ما أروعك..ذاكرة متسلسلة وأفكار مُرتبة وحالات من الرعب والقدرية التي لامناص منها !! لكني اصدق هذه المرأة التي فقدت كل شيء..الجميل هو طريقة التعبير عن لسان المرأة هنا..شكرا سولاف..كاتبة وحرفية حقيقية.
أستاذ محمد السنوسي
أشكر متابعتك وحضورك البهي
حياك الله