و حكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله»: البقرة: 285 أي قالوا لا نفرق «إلخ»، و قوله: «و إنا لنحن الصافون و إنا لنحن المسبحون»: الصافات: 166.
و على هذا فالإشارة بقوله: «ذلك» إلى إرجاع الرسول إلى الملك و سؤاله القضاء، و الضمير في «ليعلم» و «لم أخنه» عائد إلى العزيز و المعنى إنما أرجعت الرسول إلى الملك و سألته أن يحقق الأمر و يقضي بالحق ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته و ليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.
يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع و السؤال غايتين: أحدهما: أن يعلم العزيز أنه لم يخنه و تطيب نفسه منه و يزول عنها و عن أمره أي شبهة و ريبة.
و الثاني: أن يعلم أن الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته و أنه سيفتضح لا محالة سنة الله التي قد خلت في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلا فإن الخيانة من الباطل، و الباطل لا يدوم و سيظهر الحق عليه ظهورا، و لو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتي قطعن أيديهن و أخذن بالمراودة و لا امرأة العزيز فيما فعلت و أصرت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.
و كان الغرض من الغاية الثانية: «و أن الله لا يهدي كيد الخائنين» و تذكيره و تعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر و هو أن يعلم الملك أنه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب و لا يخون في شيء البتة كان جديرا بأن يؤتمن على كل شيء نفسا كان أو عرضا أو مالا.
و بهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إياه و هو قوله بعد أن أشخص عند الملك: «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم».
و الآية ظاهرة في أن هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذي أشير إليه بقوله: «و ألفيا سيدها لدى الباب» و قوله: «و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه».
و قد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية و التي بعدها تتمة قول امرأة العزيز: «الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين» و سيأتي الكلام عليه.
قوله تعالى: «و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم» تتمة كلام يوسف (عليه السلام) و ذلك أن قوله: «أني لم أخنه بالغيب» كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول و القوة و هو (عليه السلام) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا و لا قوة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول و القوة عن نفسه و نسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه، و تسوية نفسه بسائر النفوس التي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمارة بالسوء فقال: «و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي» فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام): «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله»: هود: 88.
فقوله: «و ما أبرىء نفسي» إشارة إلى قوله: «أني لم أخنه بالغيب» و أنه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه و تزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه، و علل ذلك بقوله «إن النفس لأمارة بالسوء» أي إن النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها و وفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، و إنما تكف عن أمرها بالسوء و دعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء و توفقها لصالح العمل.
و من هنا يظهر أن قوله: «إلا ما رحم ربي» يفيد فائدتين؟.
إحداهما: تقييد إطلاق قوله: «إن النفس لأمارة بالسوء» فيفيد أن اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس و ليس يقع عن إلجاء و إجبار من جانبه تعالى.
و ثانيتهما: الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه.
و قد علل الحكم بقوله: «إن ربي غفور رحيم» فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأن المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع و الرحمة يظهر بها الأمر الجميل، و مغفرته تعالى كما تمحو الذنوب و آثارها كذلك تستر النقائض و تبعاتها و تتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب، قال تعالى.
«فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإن ربك غفور رحيم»: الأنعام: 145 و قد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.
و من لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عز اسمه بلفظ «ربي» فقد كرره ثلاثا حيث قال: «إن ربي بكيدهن عليم» «إلا ما رحم ربي» «إن ربي غفور رحيم» لأن هذه الجمل تتضمن نوع إنعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه و هو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين، و أما قوله: «و أن الله لا يهدي كيد الخائنين» فهو خال عن هذه النسبة و لذلك عبر بلفظ الجلالة.
و قد ذكر جمع من المفسرين أن الآيتين أعني قوله: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» «إلخ» من تمام كلام امرأة العزيز، و المعنى على هذا أن امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها و شهدت بصدقه قالت: «ذلك» أي اعترافي بأني راودته عن نفسه و شهادتي بأنه من الصادقين «ليعلم» إذا بلغه عني هذا الكلام «أني لم أخنه بالغيب» بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلي أنا و أنه كان صادقا «و أن الله لا يهدي كيد الخائنين» كما أنه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة و بالسجن بضع سنين حتى أظهر صدقه في قوله و طهارة ذيله و براءة نفسه و فضحني أمام الملك و الملأ و لم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن «و ما أبرىء نفسي» من السوء مطلقا فإني كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره «إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم».
و هذا وجه رديء جدا أما أولا: فلأن قوله: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام أن يقال: و ليعلم أني أخنه بالغيب - بصيغة الأمر - فإن قوله «ذلك» على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب و شهادتها بصدقه فقوله: «لم أخنه بالغيب» إن كان عنوانا لاعترافها و شهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فإن محصل معناه حينئذ: إنما اعترفت و شهدت ليعلم أني اعترفت و شهدت له بالغيب.
مضافا إلى أن ذلك يبطل معنى الاعتراف و الشهادة لدلالته على أنها إنما اعترفت و شهدت ليسمع يوسف ذلك و يعلم به، لا لإظهار الحق و بيان حقيقة الأمر.
و إن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنما اعترفت و شهدت له ليعلم أني لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن و لبث في السجن بضع سنين مضافا إلى أن اعترافها و شهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه و هو ظاهر.
و أما ثانيا: فلانه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف إن الله لا يهدي كيد الخائنين، و قد ذكرها يوسف به أول حين إذ راودته عن نفسه فقال: «إنه لا يفلح الظالمون».
و أما ثالثا: فلأن قولها: «و ما أبرىء نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن» يناقض قولها: «لم أخنه بالغيب» كما لا يخفى مضافا إلى أن قوله: «إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم» على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحري أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء و هي تعبد الأصنام.
و ذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير «ليعلم» و «لم أخنه» إلى العزيز و هو زوجها فهي كأنها تقول: ذاك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا، و أن كل ما وقع أني راودته عن نفسه فاستعصم و امتنع فبقي عرض زوجي مصونا و شرفه محفوظا، و لئن برئت يوسف من الإثم فما أبرىء منه نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.
و فيه: أن الكلام لو كان من كلامها و هي تريد أن تطيب به نفس زوجها و تزيل أي ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإن قولها.
«الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين» إنما يفيد العلم بأنها راودته عن نفسه، و أما شهادتها أنه امتنع و لم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، و كان من الممكن أنها إنما شهدت له لتطيب نفس زوجها و تزيل ما عنده من الشك و الريب فاعترافها و شهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنها لم تخنه بالغيب.
مضافا إلى أن قوله: «و ما أبرىء نفسي» إلخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها: «أنا راودته عن نفسه» و ظاهر السياق خلافه.
على أن بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.
انتهى.