يوم الفصل
تفسير القرطبي
قوله تعالى { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} جمهور المفسرين على أن المرسلات الرياح. وروى مسروق عن عبدالله قال: هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله تعالى ونهيه والخبر والوحي.
وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح والكلبي. وقيل : هم الأنبياء أرسلوا بلا إله إلا الله؛ قاله ابن عباس.
وقال أبو صالح : إنهم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات.
وعن ابن عباس وابن مسعود : إنها الرياح؛ كما قال تعالى { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ[1]}. وقال { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ[2]}. ومعنى { عُرْفًا} يتبع بعضها بعضا كعرف الفرس؛ تقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد: إذا توجهوا إليه فأكثروا.
وهو نصب على الحال من { وَالْمُرْسَلَاتِ} أي والرياح التي أرسلت متتابعة.
ويجوز أن تكون مصدرا أي تباعا.
ويجوز أن يكون النصب على تقدير حرف الجر، كأنه قال: والمرسلات بالعرف، والمراد الملائكة أو الملائكة والرسل.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمرسلات السحاب، لما فيها من نعمة ونقمة، عارفة بما أرسلت فيه ومن أرسلت إليه.
وقيل: إنها الزواجر والمواعظ.
و { عُرْفًا} على هذا التأويل متتابعات كعرف الفرس؛ قال ابن مسعود.
وقيل: جاريات؛ قال الحسن؛ يعني في القلوب.
وقيل: معروفات في العقول.
{ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا } الرياح بغير اختلاف؛ قال المهدوي.
وعن ابن مسعود: هي الرياح العواصف تأتي بالعصف، وهو ورق الزرع وحطامه؛ كما قال تعالى{ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا[3]}. وقيل: العاصفات الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها.
وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر؛ يقال: عصف بالشيء أي أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي تعصف براكبها، فتمضى كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم أي ذهبت بهم.
وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف.
{وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} الملائكة الموكلون بالسحب ينشرونها.
وقال ابن مسعود ومجاهد: هي الرياح يرسلها الله تعالى نشرا بين يدي رحمته؛ أي تنشر السحاب للغيث.
وروي ذلك عن أبي صالح.
وعنه أيضا: الأمطار؛ لأنها تنشر النبات، فالنشر بمعنى الإحياء؛ يقال: نشر الله الميت وأنشره أي أحياه.
وروى عنه السدي: أنها الملائكة تنشر كتب الله عز وجل. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم.
الضحاك: إنها الصحف تنشر على الله بأعمال العباد. وقال الربيع : إنه البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح.
قال { وَالنَّاشِرَاتِ} بالواو؛ لأنه استئناف قسم آخر.
{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا } الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل؛ قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وأبو صالح.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ما تفرق الملائكة من الأقوات والأرزاق والآجال.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: الفارقات الرياح تفرق بين السحاب وتبدده.
وعن سعيد عن قتادة قال { الْفَارِقَاتِ فَرْقًا } الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل والحرام والحلال.
وقال الحسن وابن كيسان.
وقيل: يعني الرسل فرقوا بين ما أمر الله به ونهى عنه أي بينوا ذلك.
وقيل : السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق وهي الحامل التي تخرج وتند في الأرض حين تضع، ونوق فوارق وفرق. [وربما] شبهوا السحابة التي تنفرد من السحاب بهذه الناقة؛ قال ذو الرمة:
أو مزنة فارق يجلو غواربها
تبوج البرق والظلماء علجوم
{ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا } الملائكة بإجماع؛ أي تلقي كتب الله عز وجل إلى الأنبياء عليهم السلام؛ قاله المهدوي.
وقيل : هو جبريل وسمي باسم الجمع؛ لأنه كان ينزل بها.
وقيل : المراد الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم؛ قال قطرب.
وقرأ ابن عباس { فَالْمُلْقِيَاتِ} بالتشديد مع فتح القاف؛ وهو كقوله تعالى { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ[4]}. { عُذْرًا أَوْ نُذْرًا } أي تلقى الوحي إعذارا من الله أو إنذارا إلى خلقه من عذابه؛ قاله الفراء.
وروى عن أبي صالح قال : يعني الرسل يعذرون وينذرون.
وروى سعيد عن قتادة { عُذْرًا}
قال: عذرا لله جل ثناؤه إلى خلقه، ونذرا للمؤمنين ينتفعون به ويأخذون به.
وروى الضحاك عن ابن عباس.
{ عُذْرًا} أي ما يلقيه الله جل ثناؤه من معاذير أوليائه وهي التوبة { أو نذرا} ينذر أعداءه.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص
{ أَوْ نُذْرًا} بإسكان الذال وجميع السبعة على إسكان ذال { عُذْرًا} سوى ما رواه الجعفي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنه ضم الذال. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما.
وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة { عُذْرًا أَوْ نُذْرًا } بالواو العاطفة ولم يجعلا بينهما ألفا.
وهما منصوبان على الفاعل له أي للإعذار أو للإنذار.
وقيل: على المفعول به، قيل: على البدل من { ذِكْرًا} أي فالملقيات عذرا أو نذرا.
وقال أبو علي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالثقيل على جمع عاذر وناذر؛ كقوله تعالى
{ هَٰذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ[5]} فيكون نصبا على الحال من الإلقاء؛ أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار. أو يكون مفعولا { لذكرا} أي { فَالْمُلْقِيَاتِ} أي تذكر { عُذْرًا أَوْ نُذْرًا }. وقال المبرد: هما بالتثقيل جمع والواحد عذير ونذير.
قوله تعالى {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب ما تقدم من القسم؛ أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم.
ثم بين وقت وقوعه فقال { فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب؛ يقال:طمس الشيء إذا درس وطمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار فتكون الريح طامسة والأثر طامسا بمعنى مطموس.
{ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} أي فتحت وشقت؛ ومنه قوله تعالى { وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا[6]}. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فرجت للطي.
{ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} أي ذهب بها كلها بسرعة؛ يقال: نسفت الشيء وأنسفته: إذا أخذته كله بسرعة.
وكان ابن عباس والكلبي يقول: سويت بالأرض، والعرب تقول: فرس نسوف إذا كان يؤخر الحزام بمرفقيه؛ قال بشر: نسوف للحزام بمرفقيها ونسفت الناقة الكلأ: إذا رعته.
وقال المبرد: نسفت قلعت من موضعها؛ يقول الرجل للرجل يقتلع رجليه من الأرض: أنسفت رجلاه.
وقيل: النسف تفريق الأجزاء حتى تذروها للرياح.
ومنه نسف الطعام؛ لأنه يحرك حتى يذهب الريح بعض ما فيه من التبن.
{ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} أي جمعت لوقتها ليوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه؛ فالمعنى : جعل لها وقت وأجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم؛ كما قال تعالى { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ[7]}. وقيل: هذا في الدنيا أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب لها في إنزال العذاب بمن كذبهم بأن الكفار ممهلون.
وإنما تزول الشكوك يوم القيامة.
والأول أحسن؛ لأن التوقيت معناه شيء يقع يوم القيامة، كالطمس ونسف الجبال وتشقيق السماء ولا يليق به.
التأقيت قبل يوم القيامة.
قال أبو علي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا. وقيل: أقتت وعدت وأجلت.
وقيل { أُقِّتَتْ} أي أرسلت لأوقات معلومة على ما علمه الله وأراد. والهمزة في { أُقِّتَتْ} بدل من الواو؛ قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: وكل واو ضمت وكانت ضمتها لازمة جاز أن يبدل منها همزة؛ تقول: صلى القوم إحدانا تريد وحدانا، ويقولون هذه وجوه حسان و[أجوه].
وهذا لأن ضمة الواو ثقيلة.
ولم يجز البدل في قوله { وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ[8]} لأن الضمة غير لازمة. وقرأ أبو عمرو وحميد والحسن ونصر. وعن عاصم ومجاهد { وقتت} بالواو وتشديد القاف على الأصل.
وقال أبو عمرو : وإنما يقرأ { أقتت} من قال في وجوه أجوه.وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج { وقتت} بالواو وتخفيف القاف.
وهو فعلت من الوقت ومنه { كِتَابًا مَوْقُوتًا[9]} . وعن الحسن أيضا { ووقتت} بواوين، وهو فوعلت من الوقت أيضا مثل عوهدت.
ولو قلبت الواو في هاتين القراءتين ألفا لجاز.
وقرأ يحيى وأيوب وخالد بن إلياس وسلام { أقتت} بالهمزة والتخفيف؛ لأنها مكتوبة في المصحف بالألف.
قوله تعالى { لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} أي أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم فهو استفهام على التعظيم.
أي {لِيَوْمِ الْفَصْلِ } أجلت.
وروى سعيد عن قتادة قال : يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة أو إلى النار.
وفي الحديث: [إذا حشر الناس يوم القيامة قاموا أربعين عاما على رؤوسهم الشمس شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون الفصل].
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} أتبع التعظيم تعظيما؛ أي وما أعلمك ما يوم الفصل؟ { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي عذاب وخزي لمن كذب بالله وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد.
وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب؛ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره؛ لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله، فإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك، وعلى قدر وفاقه وهو قوله { جَزَاءً وِفَاقًا[10]}. وروي عن النعمان بن بشير قال: ويل: واد في جهنم فيه ألوان العذاب.
وقال ابن عباس وغيره.
قال ابن عباس: إذا خبت جهنم أخذ من جمره فألقي عليها فيأكل بعضها بعضا.
وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه آله وصحبه وسلم أنه قال:[عرضت علي جهنم فلم أر فيها واديا أعظم من الويل] وروي أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض وانفطر، وقد علم العباد في الدنيا أن شر المواضع في الدنيا ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات من الجيف وماء الحمامات؛ فذكر أن ذلك الوادي.
مستنقع صديد أهل الكفر والشرك؛ ليعلم ذوو العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة، ولا أنتن منه نتنا، ولا أشد منه مرارة، ولا أشد سوادا منه؛ ثم وصفه رسول الله صلى الله عليه آله وصحبه وسلم بما تضمن من العذاب، وأنه أعظم واد في جهنم، فذكره الله تعالى في وعيده في هذه السورة.