الببغاء
شعر : د. جمال مرسي
لي بَبَّغَاءٌ يعشقُ التقليدا =وَيُرَدِّدُ الأصواتَ لي ترديدا
إن قُلتُ أهلاً ، قال أهلاً مثلها= وإلى اللقاءِ يُعيدها تجويدا
وإذا أشرتُ مُهدداً بأصابعي= مدَّ الجناحَ و أرسلَ التهديدا
فإذا رآني عابساً مُتَجَهِّمَاً =يحنو عليَّ فيطلقُ التغريدا
يسعى لكي يستلَّ حزني مُلقياً= إياه عنِّي في الفضاءِ بعيدا
يصف هنا الشاعر ببغاء يملكه ,, يردد الأصوات ,, ويعيد الكلمات
وحتى الحركات ,, إذا أحس أنَّ صاحبه حزين كئيب يحاول إخراجه
من هذا الوضع بالتغريد بحنان ,,
طبعا هنا اختار الشاعر ( الببغاء ) دون باقي الطيور المغردة ,, لأسباب
فالببغاء له بعض الصفات تشابه الإنسان أهمها ,, الكلام ,, والترديد
والحفظ ,, والتقليد ,,
وهذا لأنه استخدمه كطريقة نقدية هو اسقاط هادف ,, نستطيع أن
أن نعرف بكل سهولة أن الببغاء هو ( المواطن ) ونعلم كيف أن
هذا المواطن يردد ما تقوله حكوماته المتسلط الفاسدة ,, ينفذ ما تريده
منه ,, هو في خدمة مزاجها ومطيع لأوامرها ,,
هو ببغاءٌ مخلصٌ ومثابرٌ =لم يَشْكُ في يومٍ إليّ قيودا
يا طالما أطعمتُهُ فضلاتنا =عدساً وخبزاً يابساً وثريدا
فيقول حمداً للذي خلق الورى= يستأهل الشكرانَ والتمجيدا
لم يعترضْ يوماً ولم يُظهرْ أسىً= شجباً ..كمثلِ العُرْبِ ..أو تنديدا
هنا بداية وضوح الإسقاط حيث أن الشاعر أجاد في التعبير عن
حالة هذا المواطن المخلص ,, المثابر ,, المستسلم للقيوده في السجن
الكبير الذي يعيش به ,, ترمي له بفضلات خيرات بلاده وتأخذ
هي كل الخيرات ,,أما هو يحمد الله على هذه النعمة ويشكرها ,,
دون أي اعتراض ولا تذمر ولا أي احتجاج ولا شجب ,, أو التنديد
(مثل العرب ) وهنا يوجه الشاعر المقارنة مباشرة ,, وهنا نستطيع أن
تتوسع الفكرة من المواطن إلى الدول العربية وهي خاضعة للإستعمار
الغربي وأمريكا إما مباشرة أو غير مباشرة ( إقتصاديا ) وهي لا تعرف
معها إلا قول نعم ,, تنهب ثورتها وهي تقبل بالفتات ,, تدمرها تستعمرها
وهي لاراضخة للذل والهوان لا تنديد ولا شجب ولا رفض ,, تقيدها
من كل الجهات وهي تستسلم لهذا القيد ,,
لكنني كم كنتُ فظّاً نَحْوَهُ= فلطالما قيدتُهُ تقييدا
و منعتهُ ألا يرى غيري أنا= و تركتُهُ دونَ الرِّفاقِ وحيدا
لا خُلَّةٌ يشكو إليها هَمَّهُ= فَتُخَفِّفُ الأعباءَ و التنكيدا
لا صاحبٌ يُفضي إليهِ بِسِرِّهِ= أهٍ أراني زدتهُ تعقيدا
هنا يستمر الشاعر في وصف القيود وتحكمه بحياة الببغاء ,, يفرض
عليه ما يريد ويمنع عليه ما يريد ,, و يعزله عن الجماعات ,, وعن
الأصدقاء والأصدقاء ,, وعقد كل حياته ومعيشته ,, فقد قيده تقيدا
وهنا أيضا اسقاط مهم ,, فالمواطن وبالتالي وطننا ( العربي كتعميم)
مهما قيدوه وبالتالي قيدوا الأعداء دولنا بالضغط والعقود ومعاهدات
واتفاقيات ,, العزل حرمانه من الأخوة والأصدقاء كل هذا وهو راض
ومستسلم للأسف ولا اعتراض ,,,!!
لو كنتُ في حالٍ يُحاكي حالََهُ= ما كنتُ أرضى ذِلَّةً وحديدا
ولكنتُ حطَّمتُ القيودَ جميعها= لأكونَ حراً في الوجودِ سعيدا
طوراً على الغصنِ الظليلِ ، وتارة=ً فوق الجبالِ أبُثُّها التغريدا
أقتاتُ مما أنتقي بإرادتي =أو أرتدي مما صنعتُ جديدا
و أشاطرُ الورقاءَ في أفراحِِها= واقاسمُ الطفلَ البرئَ العيدا
هنا يتحدث الشاعر عن نفسه لوكان مكان هذا الببغاء لم ولن
يقبل المذلو والقيود ,, وككان قد حطم القيود جميعها ,, ليعيش
حرا يتنقل فيكل الإتجاهات وكل الأماكن ,, يأكل ما يختاره بنفسه
ويلبس ما يصنه وجديد يشارك يحتفل بالأعياد بحرية ويفرح
مع الآخرين ,,
وهنا أيضا توضح الفكرة أكثر وأكثر ,, فالشاعر عبر على رفضه لما
يمارسه على الببغاء ولذلك لو كان مكانه سيفعل ما قال ,, وهذا
ما تقوم به الحكومات فرق كبير بينها وبين عيش مواطنيها
أم إذا اخذنا دولنا ,, تستطيع أن تكسر القيود وأن تأكل من زرعها
واللباس من صنع مصانعها فلنا المقومات لذلك ,, وأن ترعى الطفولة
التي استبيحت في هذا الزمن ,, وحرمت الكثير ,, هاهم أطفال فلسطين
والعراق والصومال والسودان ووووو ...الخ يعانون من كل شيئ ,,
وكأني بالشاعر أراد الدخول إلى الثورة التي قادها البوعزيزي في تونس
كمثل للرفض ,,
ما خابَ في الببْغاء حدْسي ، حينما =عُدتُ المساءَ فلم يكن موجودا
فتشتُ عن آثارِهِ في منزلي= وسألتُ صمتَ الليلِ و التسهيدا
لكنه قد كان فكَّ إسارَهُ =ثم ارتقى صوب النجومِ بعيدا
ناديتُهُ ، ناجيتُهُُ ، لم يستجبْ= ناشدتُهُ أن ينثني ويعودا
لكنَّهُُ أخذ القرارَ بجرأةٍ= زادتْهُ قدْراً .. داخلي .. محمودا
فحزنتُ .. رغم سعادتي .. حُزنَ الذي= فقدَ الشبابَ و ضيَّع المولودا
وهنا تتضح الصورة طبعا أكثر فالبغاء فهم الدرس وعرف الدرب
فكسر قيده وانطلق مغردا للفضاء حرا لا قيود تحكمه ولا جبارا
أو ظالما يحكمه ,, وفعلا وقف رئيسه الهارب يناشده ويناجيه
لكن من تحرر من الأسر وتخلص من سجانه يستحيل أن يرضى
بالعودة إلى قيوده وسجنه ,, حتى لو كانت هذه الحرية في طريق
سالت به الدماء وأرواح فقدت ,, فهي تستحق ,,
ودائما لن ننسى أبو قاسم الشابي ::
إذا الشعب يوما أراد الحياة :::: فلابد أن يستجيب القدر
جاءت القصيدة رغم بساطتها الظاهرة إلا أنها عميقة جدا في المعنى
وتتحمل قراءات عديدة ,, لما حملته من إسقاط ,, وصور تطبق على
عدة جوانب حسب ما يراها القارئ ,, هي رحلة من الرفض والثورة
والتمرد ,, وهي تدوين لواقع مرفوض ضمنيا من الفرد الطبيعي الواعي
فيها ما يتمناه ,, ويحلم به ,, كما هي صورة مصغرة على دولنا العربية
المنساقة والتابعة للمستعمر إما مباشرة أو غير مباشرة ( ماديا )
أسعدني جدا المرور بهذه الأبيات التي عبرت على الحدث التونسي
بطريقة مختلفة وغير مباشرة ,, كما تتحمل الإسقاط على مواضيع
مختلفة ,, لذلك أظن أنها تصلح أن تستخدم في عدة مناسبات ,,
وفي أي وقت لأنها غير مقيدة بالحدث مباشرة ,,
أتمنى أن أكون قد قمت بقراءة موفقة وقربت مما كان يدور في فكر
الشاعر وهو يكتب هذه الكلمات ,, لك مني عميدنا دوما كل التقدير
مودتي الخالصة
سفـــانة