السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
البديلة
هل هي روح أمي التي فارقت جسدها بعد أن وضعت طفلها الخامس والأخير هي من لعن هذه الدار ؟
وهل للأرواح لعنات تصيب الأمكنة في كل الأزمنة؟؟!
انه البناء ذاته يقبع في زاوية شارعنا ,تقابله المقبرة التي حُولت الى مقصف أو خمارة ,تحول هي الأخرى
الشراب في الكؤوس إلى دبيب نمل وخدر في عقول الرجال , فيتحولون إلى أشباه أجساد في آخر الليل,
أنها المقبرة التي تضم جسد آمي ولا زالت روحها كأرواح الأولياء الصالحين تحوم في المدينة مابين المقصف والبناء الذي
ليس بالمهجور ولا بالمسكون, بقي مثل أوابد التاريخ مهجورا فلم يرض مالكه أن يبيعه فهو يحمل اسمه, ومازالت أرمته
الطبية تشير الى ماكانت عليه حالة المنزل سابقا, هُجر البناء,فلم يعد الأطفال قادرين على البقاء فيه ولو ليلة ,ولا احد
يدرك السبب أو يتذكره, كانت روح أمي ليلا تنتقل في غرف البناء وطوابقه ,ثم تعود الى لحظة مفارقتها الأولى للجسد,
خرج جسدها وحيداً غريباًعن روحها.خرجت من الباب الحديدي الأسود الكبير بعد أن ولجته وأنا صغيرة مع أمي وجدتي
وصرة ثياب المولود الجديد الذي ستضعه أمي ,وهي ظانه أن كثرة الأطفال ستمسك بالرجل كما تظن بقية النسوان ,لكن
أمي ماتت ولم تستطع كثرة الأطفال أن تمسك به أو تعيده إلينا ,لم تستطع القابلة التي ولَّدتنا جميعاً أن تولَد أمي ليلتها فلجأت
جدتي أم أبي إلى الطبيب الوحيد في المدينة ترجوه ولم يرفض طلبها, والجيرة القديمة فرضت عليه ذلك
.
ذهبنا ليلاً الى منزله الذي خصص منه القبو مستشفىً صغيراً لمرضاه في حالات الضرورة ,دخلت جدتي مع أمي
وبقيت أنا مع صرة ثياب القادم الجديد. بدأت اسلي نفسي بالنظر الى جدران القبو وبعض البقع الحائلة اللون الملطخة
على الحائط, ترى كم طعنة سكين استطاع الطبيب مداواتها ؟ أو كم رصاصة غدر استطاع أن يخرجها من أجساد المرضى
الذين ملكت أجسادهم هذه المقاعد المتهرئة الجلد؟؟
خرجت جدتي من الغرفة لتقطع عليَ متعة النظر وتبشرني بولادة الأخ الخامس.
وبهذا بقيت الابنة الكبرى والوحيدة, تناولت جدتي صرة الثياب وعادت إلى الغرفة فلحقت بها كي اقترب من أمي المنهكة
و وجهها المتعرق الأصفر .
بينما الطبيب وجدتي يدبران أمر المخلوق الجديد وهو يعلن ضيقه وتملله من حياة سُحب إليها رغماً عنه.بدأت امسح
عرق وجه أمي ,واقبل قطرات الدمع على خدها ,فانا اعرف حزن أمي لأنها تلد ولا احد في الخارج ينتظر البشارة بالمولود
الجديد.تناولت من يد جدتي طفلا خرج للتو من رائحة أمي ودمها ,رحمها ,عرقها , طفلاً مازال لايجيد إغماض عينيه,
طفلا مازال يستطعم شيئا ما عالقاً في فمه, كنت بين لحظة وأخرى تمد يدك لتمسك بشي قد الفته لكنك افتقدته فجأة, تخشى
السقوط فما زالت صدمة السقوط الأول تسيطر عليك, انشغلت بالتحديق إليك وتفحص معانيك بينما أمي تحاول أن تنزع
خاتماً من أصبعها وجدتي تنزع عن أذنيها القرط,قالت جدتي : ابقي عند أمك بينما اذهب دقائق وأعود .
خرجت جدتي بسرعة يسبقها الطبيب الذي قال لها بضع كلمات لم اسمعها جيداً.
بقيت معك ومع أمي ووجهها الأصفر,وكان الدم لم يدخل لحظة الى عروقها الصغيرة الظاهرة ,وضعتك جانب أمي
واقتربت منها لأجيب عن سؤالها الم يأت أبوكِ)؟
أجبت على سؤالها بحركة من رأسي تومئ بالنفي ,وكأني أخشى النطق.احتضنتك أمي وهي تتأمل وجهك الصغير ,
ربما تبحث فيه عن منقذ أو ربما برقية حضور لي أبي , أبي الذي لم نره منذ مدة طويلة,ودائما كنت اسأل نفسي :
أين يذهب أبي ؟ولماذا لاياتي إلينا ؟وكيف تحمل أمي ؟فوالدي يأتي وقلما يختلي بها, لكنها فور عودته إلينا
تنسى مدة غيابه الطويلة وتحاول بشتى الطرق أن تزهو بعلو بطنها بعد غيابه بأشهر وكأنها تبرهن لهن
أنها مازالت مرغوبة لديه ,مازال زوجها الذي يحبها ,والدي لااعرف طبائعه لأني لم اقترب منه ولو لمرة واحدة ,
لااعرف مايكره وما يحب,متى يغضب,ولماذا ؟ لكنه كان يبدو أحيانا كنمرٍ حين ينقض على أمي ويعلو صراخها,
يضربها ,فتستنجد بجدتي التي تأتي راكضة لتخلصها من بين يديه , بينما أنا وإخوتي نتكور معاً ونقبع في الزاوية ,
نراقب مايحدث بخوف ,الى أن يغادر أبي المنزل فنشعر بالأمان ,وماهي إلا مدة قصيرة بعد غياب والدي حتى تعلو
بطن أمي وكأنها لم تضرب وتهان ,هذه العلاقة مازلت لاافهمها ,يغيب والدي طويلاً فتقع مسؤوليتنا على أمي وجدتي
أكثر, وكلما سألت أمي عن أسباب غياب والدي ولماذا, والى أين ؟ تنهرني بإجابة مقتضبة .
فأمي كانت تضيق بهذه الحالة لكن ....لم يكن هناك حل أخر فلا منزل يأويها غير منزل جدتي التي تشعرنا
وتشعرها بالمهانة والذل وأننا عبء عليها, فوالدي كما تردد دائماًيبزر أولاد وهي تعلق بهم )
(فمتى يقصف الله أعمارنا حتى ترتاح منا )(فبذرة العاطل عاطلة) لازال كلام جدتي يرن بإذني كلما خلوت بنفسي
وتذكرت أننا لم نشبع يوماً من طعامنا لأنها ليست قادرة على ملء بطوننا الفارغة , فالطبخة لاتكفينا يوماً واحداً ,
وأمي دائما ترد عليها: (أولاد ياعمتي وهذا وقت طعامهم ولعبهم )
عادت جدتي الى عيادة الطبيب بعدما رهنت خاتم أمي وقرطها عند المرأة الارمنية لتدفع للطبيب ثمن العلاج ,
فأمي تمر بمرحلة خطرة لان الولادة أنهكت جسدها الضئيل, وهو ضعيف البنية وقد حذَرها الطبيب مراراً
من الإنجاب لأنها كانت تعاني من مرض السكر , لكن أمي كانت لاتبالي وتحاول أن تنجب اكبر عدد من
الأولاد, ولم تكن تدري بأنها ستغادرهم لتتركهم أمانة بعنقي.تناولت جدتي الصغير لتلفه جيداً وتعود به معي الى البيت فأمي
كان عليها البقاء عند الطبيب .
وضعتك في فراشي, اشتم فيك رائحة أمي, دمي ودمها.لم تكمل الساعة الأولى حين أخذتك بين يدي, والآن أيضا بعد مرور
عدة ساعات أنت لي كي اعتني بك فجدتي كان عليها العودة للمبيت عند أمي.أنا أمك الآن ابنة الثالثة عشر عاما.
أحادثك, أقبلك, ألقمك بعض السكر مع الماء كما أوصتني جدتي, كحلت عينيك بكحل أمي العربي الذي كانت تصنعه
بنفسها لتكحل عينيها الجميلتين ,وقبل أن ينشر الضوء بساطه الفضي كاملاً عادت جدتي الى البيت أيقظتني والدمع
يفضح ما تخبئه,أيقظت بعض النسوة من جاراتنا.
مابك يا جدتي ..؟ أين أمي...؟ بقيت الأحرف معلقة ولا جواب ..........
ضمتني جدتي, ولأول مرة أجدها طيبة, حنونة كأنها أمي, فحين تلم المصيبة بنا كم نجد أرواحنا طيبة وحنونة ورقيقة,
علمت من حضن جدتي , ودموعها أن أمي لن تعود إلا محمولة , مغمضة العينيين , ماتت أمي , آتى بها الرجال من منزل
الطبيب محمولة في حرام شتوي اسود اللون, مازال ذلك اللون الأسود يغطي عيني وحياتي.
أخذت جدتي الحرام الأسود المصنوع من شعر الماعز, فقد صنعته أمي بنفسها وحزمته مع بعض الأشياء التي تحبها
من ماضٍ عزيزِ كان لها.
استلقت أمي على فراش رتبته جدتي في وسط الدار كأنه أعد لعروس, القوا عليها الغطاء ولم يتركوا منها إلا وجهها الذي
عاد إليه لونه الحنطي المشرَب بالاحمرار . ستنام أمي الليلة ملء عينيها دون أن تستيقظ مراراَ لأجلنا,
ستنام وحيدة بلا مؤنس . صباحاً شيعها أهل الحي وبعض العارف. تركوها هناك وعادو ,ولم تعد , وأنت لازلت بين يدي
, كأنك آلهة مقدسة, أخشى وضعك في السرير المخصص لك أو حتى بقربي على الأرض, وكأني إن أبعدتك عن حضني
فسأحرمك حضنا أميا وأشعرك باليتم.
كانت النسوة يقمن بكل الأعمال المطلوبة للعزاء, أنا وجدتي نتوسط النسوة وقد ألبستني جدتي شالاً لامي كي أتقبل التعازي,
كانت النسوة يقبلنني وينظرن إلي واليك بإشفاق, يضغطن على يدي وكتفي كعون لي. حُرِمت حليب أمي, حنانها, طيبتها,
لكن لن أجعلك تُحرم مني أنا ,أنا حليبك , حضنك , حنانك,سأكون قدر استطاعتي بديل أمي لك , وكنت طيلة عشر سنوات
بديلة أمي, فجدتي لم يطل حزِنها على مصيرنا بعد أن فقدنا أمي, فتوفت جدتي تاركة لي وحدي الحزن والحاجة
عاد أبي بعد مدَة طويلة من ولادتك ووفاة أمي, لكنه لم يحتمل كلماتنا ونظرات جدتي فتركنا ثانية ليسافر,
وهاهو الآن ليجدنا وقد أصبحنا بلا حاجة لعون احد.لكنه كان دائما يتذمر ويردد:المنزل يحتاج لامرأة كبيرة ترعاه وتدبر
أموره وأمورنا الآن ,بعد أن أصبحت أنت في العاشرة من عمرك ,الآن نحتاج إلى امرأة نحتاج الى العون وقديما كيف كنا
نتدبر أمورنا ؟أين كماتت.بي حين انتظرتك أمي ؟ وحين ولدت؟ وحين ماتت........؟ وحين لحقت بها جدتي........؟
أين كنت عندما كنا بحاجة ماسة للرعاية , لأب ,لكبير,؟أين كنت بعد أن ذقنا الذل, المرارة, الحاجة, أين كنت حين كانت
جدتي تُشعرنا بالمهانة والذل, بد أن وقف إلى جانبنا أناس غرباء.
عاد أبي الآن يتوسط الرجال من معارفه, الذين اخذوا يلحون عليه بالبقاء والزواج فالمنزل الذي دُبرت أموره فتاة في الثالثة
عشرة من عمرها لاتستطيع تدبيره الآن بعد أن بلغت الثالثة والعشرين من عمرها , وشوش احدهم في إذنه ,أن لاحاجة لدفع
مهر أو أية تكاليف فالصفقة جاهزة والمقايضة متساوية ,عرض:خذ وهات .وينتهي الأمر .
راقت الفكرة لأبي الذي يبحث عن الحلول الجاهزة فهو لايحب أن يتعب نفسه بالتفكير أو العمل.
تمت خطبة أبي ,وخطبتي ستتم .بكيت ,توسلت ,هددت ,لكن اللعبة كانت قد انتهت والاوار قد مُثلت وانتهى العرض
المسرحي.
وأنا..........سألتني يومها وأنت تمسح دموع عينيك بوجهي:أنا عند من سأبقى عند أي بديلة عوض أمي, أنت البديلة أم
زوجة أبي البديلة؟؟؟؟؟
لم يشفع لك البكاء يومها ولا هروبك من البيت, كنت تحتج احتجاجاً طفو ليا ذهب مع روح أمي التي مازالت لعناتها
تطاردنا.طاردت المقبرة فحوَلتها الى مقصف وطاردت منزل الطبيب فحولته الى بناء مهجور طاردت جدتي فأخذتها إليها ,
وطاردتني وطاردتك ,فوالدي سيتزوج ولا سبيل الى ذلك إلا أن أكون أنا البديلة وكنت ليلتها ,ليلة زفافي بديلة لامي بامرأة
أخرى أم ًَلك وزوجة لأبي.