الأَمَانَةُ
... فدخل البلدة بعد طول غيبة، فوجد من المنازل، التي عهدها قبل هجرته مضطراً مكرهاً، ما هو قائم وما هو منهدم، ثم إنه قصد مجلس أهل القرية مطالباً بوديعة كان قد تركها أمانة لدى البعض منهم قبل السفر، لكنهم كانوا قد حسموا أمرهم جميعاً على أن ينكروه وينكروا الأمانة التي استودعهم إياها، على أن يكون لكل منهم فيها نصيب معلوم بالإتفاق الذي جرى بينهم...
وعندما حضر بينهم سخروا منه، ورأوه نكرة بعين نفوسهم الأمارة بالسوء، لكن أعينهم ظلت وفية لذكراه وناطقة بمعرفته، ثم إنه وجد نفسه وسطهم بغير حول ولا قوة إلا بالله تعالى، فافتروا عليه الكذب، ومنعوه ما له عليهم من حق، ولم يردوا إليه من وديعته نقيراً ولا قطميراً، وكادوا يبطشون به، ولما حكم آخرين، يعرفونه ولا يجهلون أهل قريته، بينه وبينهم لم يحكموا خشية على أنفسهم بالعدل...
فما إن غاب عن أنظار من جاروا عليه، حتى نقضوا ما أبرموه من عقد بينهم، وتنازعوا في من سيظفر منهم على أوفر نصيب من الأمانة، أما ذاك الذي جاءهم يسعى، وقال لهم في أنفسهم قولاً بليغاً، وقام فيهم ناهياً داعياً إياهم إلى الإستعاذة من همزات الشيطان، ومن حضوره بينهم، ونصحهم بأداء الأمانة إلى صاحبها، ونهج سواء السبيل بدل التمسك بالضلال المبين، فقد صدوا عنه وصدفوا، وتركوه وحيداً قائماً، وأما الذي لحق بهم مسرعاً، بعدما انفض جمعهم وانصرفوا، وهو يحمل إليهم ما رأى من حال ابن قريتهم، وما سمع من شكواه المختومة بحسبي الله ونعم الوكيل، فقد أعرضوا عنه شديد الإعراض، وصموا آذانهم غاية الصمم، وأما الثالث فحمد الله على أنه لم يكن معهم شهيدا، وفي ذات الحين تمنى آخر لو أنه كان معهم ساعة تآمرهم، طمعا في الفوز بما ليس له...
اختار غاصبوا الأمانة ذات عوج، ولم يعملوا بما وعظوا به، ثم إنهم لم يجدوا من يحكموه بالباطل في ما نشب وشجر بينهم جراء الطمع والجشع، فلم يعثر صاحب الأمانة على معين يشد أزره في محنته وكربه، ولم يهتد إلى سبيل يخلص منه إلى وديعته غير قوله: وفي السماء رزقكم وما توعدون...
لم يطمئنوا لصمته، وارتابوا في صرفه النظر عن مطالبتهم بحقه وفي اعتزاله لهم، فعقدوا العزم على الخلاص منه، وأجمعوا رأيهم على أن لا يتركوا له أثرا بعد عين يذكر، فشرعوا يتربصون به الدوائر، وبيتوا غير الذي يظهرون للناس، فلم يلجموا بأسهم وشرهم عنه، بل أطلقوا لهما العنان، وطمحوا إلى أن ينكلوا به تنكيلاً، واجتهدوا في ملاحقته بما يكره ويؤذيه شديد الأذى، وصفع سمعه بما لا يرضاه ولا يطيقه من منكرات اللسان البذيء...
لم يهنوا في طلب هلاكه، ولم يترددوا في رميه بما اكتسبوا من الرذائل، وهو مما اقترفوه من الآثام بريء، ثم إنهم كادوه بما هم أهل له فلم يقصروا، وفي حاله لم يذروه وعليه لم يشفقوا، فأغرقوا أنفسهم في الغي والضلال، وركبوا الباطل وعصوا أمر ذي العزة والجلال، فحاق بهم ما ظنوه بعيدا وحسبوه منهم غير دان، وأحاط بهم من كل جانب ما لم يكن لديهم في الحسبان...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
السندباد
حسبي الله ونعم الوكيل
وكأنك تسرد قصة شعب بكامله .. نهبت أرضه وهجر من وطنه ..
وإخوة له في الدين باعوا الأمانة .. وركبوا مراكب الغدر والفسق .. والعياذ بالله
الأستاذ أبو شامة
لا يضيع حق وراءه مطالب..
شكراً على السرد ..
واستعارة مفردات بها بلاغة .. من وحي الدين الحنيف .. زادت الموضوع حساً واعيا ..صادقاً.
تحيتي لك
هيام
التوقيع
وما من كــاتب إلا سيفنى … ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شي... يسرك في القيامة أن تراه