لم أكن منتشياً ، ولم أصب بالغرور، حينما تناهى إلى سمعي نبأ شهرتي التي اجتاحت العالم بأسره وتجاوزت حدود المعقول .
فبين ليلة وضحاها أصبحت نجما لامعا تتناقل أخباري الصحف وتتصدر صوري أغلفة المجلات ، رغم أني لم أفعل شيئا سوى أنني أسعدت دون أن أدري بعض البلهاء .
بالله عليكم .. هل يستحق كائن مقهور مثلي ينعته القاصي والداني بالغباء ، أن يرتفع سعره حتى يصبح ضربا من ضروب الخيال !
ها أنذا قد أصبحت شخصية عامة دون أن أسعى إلى شيء ، إنه القدر الذي ساقني إليهم في ليلة دهماء .
كنت ضالا .. جائعا .. أعاني من جروح مؤلمة أصابت وجهي وساقي جراء السقوط في حفرة أودت بحياة صاحبي فيما كتب لي النجاة .
لم أجرؤ على العودة إلى البيت دونه ، خشية اتهامي بما لم تقترفه يداي ، خاصة وأنهم يعتبرونني كائنا غبيا لا يحسن التصرف، رغم كل الخدمات التي أقدمها لهم والتي لا يحتملها أعتى الرجال ، فطويت المسافة تلو المسافة حتى أصابني الإعياء لكني واصلت المسير رغم تعبي وحزني على صاحبي الطيب الذي قضى نحبه حال ارتطام رأسه بصخرة كانت تقبع على جانب من جوانب الحفرة ، وهي ذاتها التي ساعدتني على الفرار من ذلك القبر اللعين ، فبعد محاولات مجهدة تمكنت من ارتقائها والخروج من الحفرة بأمان .
مرت صباحات ومساءات لم أتذوق خلالها ماء ولا زادا ، وقبل أن تخور قواي تماما ،عثر ت على مكان آمن ، عرفت فيما بعد أنه تابع لجنود الاحتلال .
وحتى أكون منصفا لابد أن أعترف بفضل أولئك الجنود الذين قاموا بتضميد جراحي ، وقدموا لي الطعام والشراب حتى تماثلت للشفاء .
حاولت أكثر من مرة الفرار من معسكر الأعداء ، رغم معاملتهم الطيبة لي ، لكنهم كانوا يعيدونني ويعدونني بطيب المقام ، وبين الرفض والقبول بوضع لم أستسغه منذ البداية ،أصبحت فردا من أفراد إحدى قواعد المارينز التي تنتشر كالسرطان في عموم البلاد.
مهلا .. بماذا تفكرون ؟ أرجو أن لا تذهب أخيلتكم بعيدا وتتهموني بالخيانة ، لا .. لا .. أنا لست بخائن ، لكنني لا أملك زمام أمري، ولا أجيد التعبير عما يمور في داخلي ، كما أنني عاجز عن التحدث كما تتحدثون، وأعجز أيضا عن الإدلاء برأيي كما تدلون ،وهذه هي مشكلتي التي عانيت منها طوال حياتي كما عانى منها آبائي وأجدادي على الدوام، وسوف تعاني منها أجيالنا القادمة ، فنحن كائنات تعمل بصمت وتتفانى في خدمة البشرية منذ قديم الزمان ، لم يحدث أن امتنع أحد منا عن تأدية عمل أوكل إليه يوما ما ، وهذا ما جعل الآخرون يطمعون بنا ويحملوننا ما لا نطيق ، ورغم ذلك مازلنا نعمل بصمت لأننا لا نملك وسيلة التعبير كما قلت لكم ، وهذه المشكلة لطالما جلبت لنا المتاعب والإحراج.
لا أريد أن أثقل عليكم بطرح مبررات وادعاءات غير مجدية ، لأنني لست بطلا ولا ضحية ، بل مخلوق ضعيف لا يستطيع رد الأذى عنه ، فكيف سيتمكن إذن من رد الإحسان ؟
بعد مرور أكثر من عامين على تواجدي بين صفوف الأعداء ، قررت تلك الوحدة العودة إلى الولايات المتحدة ، فتم نقلي إلى وحدة أخرى ، لكنني غادرت القاعدة بعد مناقشات طويلة دارت بين أفراد وقيادات الوحدة الجديدة ، فتقرر تسليمي إلى شيخ عشيرة من عشائر الجنوب، وقد قام هو أيضا بتسليمي إلى عائلة أخرى ، فرقصت فرحا لأنني تحررت من عقدة الذنب التي كانت تؤرقني ، فلطالما عانيت من شعور خفي لم يتسنَ لي الإفصاح عنه إلا الآن ، وهذه هي المرة الأولى التي أكشف فيها عن مكنونات نفسي وستكون الأخيرة بلا جدال.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنما تجاوز كل الحدود ،فذات ليلة تلقى سيدي الجديد مكالمة هاتفية من شخص ما ، وقد استرعى انتباهي تكرار ذكر اسمي فأصخت السمع .
ـــ إذا كانوا يريدون استرجاعه حقا فعليهم أن يدفعوا ثلاثون ألف دولار نظير تنازلي عنه.
لا أصدق أن كائنا مهملا مثلي ، يأتي عليه يوما ، يتخطى فيه حدود المستحيل
ليحظى بهذا الاهتمام الذي دفع مالكي إلى طلب هذا الرقم الخيالي!
وبالطبع لم يكن لي دور فيما قيل وسيقال ، فمن أكون أنا ؟ أنا لست إلا كائن أحمق شغل عقول أناس أكثر حماقة منه ، المهم أنني تنصت جيدا على إحدى المكالمات ، فتبين لي أن شيخ العشيرة يتفاوض نيابة عن كولونيل متقاعد ، كان يشغل منصب آمرا لوحدة المارينز آنذاك ، وحسب علمي وعلمكم ، وهذا ليس سرا بعد أن تداولته معظم المواقع على شبكات الانترنت ، أن هذا الكولونيل يقود حملة لدعم عوائل المحاربين القتلى والجرحى ويقوم بجهود كبيرة لنقلي إلى نبراسكا كي أعمل مع الأطفال الذين جرح آباؤهم أو قتلوا في موطني العراق .
وقد علمت من مصدر موثوق ، أن الكولونيل اتصل بالقاعدة التي تم نقلي إليها ، حين أوشكت وحدته على الرحيل ، وقد أخبره ميجور في الجيش الأمريكي أنني لم أعد موجودا في تلك القاعدة ، فقد تم تسليمي إلى أحد الشيوخ ، فجن جنونه عند سماعه هذا الخبر الذي لم يكن يتوقعه بالتأكيد ، مما دعاه إلى توجيه اتهام صريح قال فيه : أن الجيش الأمريكي لم يكن على قدر المسؤولية التي حملها لهم وأنهم ارتكبوا خطأ كبيرا حين استبعدوني وتسببوا لي بأضرار نفسية لا محال .
أكاد أشك في نوايا هذا الكولونيل وجنوده الذين وضعوني في هذه المكانة المرموقة واعتبروني رمزا للسلام ، أي سلام هذا والأنوف مازالت معبأة برائحة البارود والدخان .. !!
ستقولون مالك أنت وهذا الكلام ، حسن .. سأعود إلى الكولونيل الذي عظم شأني وقال أنني أدخلت السعادة في نفوسهم ونفوس كثير من الأطفال ، وقال أيضا أن جنود المارينز ليسوا قساة القلوب كما يظن البعض ، فهم ضعفاء جدا أمام الأطفال والحيوانات ، وبما أن القواعد الأمريكية تمنع تواجد الحيوانات الأليفة ، فقد احتضنوني واعتبروني أحد العاملين فيها ، وهذا ما حدث بالفعل ، فأنا الحيوان الوحيد أو الحمار الوحيد الذي دخل تلك القاعدة، وهم الذين أطلقوا علي اسم "smoke" ولا أعرف لماذا اختاروا لي هذا الاسم بالتحديد ، لكن يمكنني التخمين حتما، فعلى الأرجح أنهم مولعون بالنار وما ينتج عنها من دخان ، هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار معنى اسم "smoke " الذي يعني بالعربية " دخان " ، وحتى لا يتهمني أحد بالمبالغة أو عدم القدرة على التخمين كما تخمنون ، فمن الجائز أنهم اختاروا لي هذا الاسم نظرا للوني الرمادي الذي يشبه إلى حد كبير لون الدخان.
مازلت أنتظر قرار ترحيلي إلى نبراسكا التي لا أعرف مكانها على وجه التحديد ، وأمريكا أيضا بأطفالها ونسائها ورجالها تنتظر قدومي بفارغ صبر، لا أعرف ما الذي ينتظرني في بلد جنت رجالاته ففقدوا الصواب حين قرروا دفع ثلاثين ألف دولار مقابل حمار ، أضف إلى ذلك تكلفة الطائرات التي ستقوم بنقلي إلى تركيا ثم إلى واشنطن ومنها إلى نبراسكا مقر إقامتي الجديد . أليس هذا جنون أيها الكرام ؟
الآن أشعر بالتوتر والقلق .. خاصة بعد إحكام قيودي خشية الفرار ، لهم الحق أن يفعلوا ذلك ، فأنا حمار "لقطة " كما تقولون ، وكما يقول المثل أيضا " رزق الهبل على المجانين " ، و"عجبي " على حد قول المصريون .
كنت أود لو أنني تمكنت من الهرب قبل أن يبتوا في أمري ،كي لا أعطي فرصة لأولئك الأدعياء الذين غزوا بلادي وتسببوا في مقتل أكثر من مليون شخص، دون أن يرق لهم قلب أو يرمش لهم جفن ،ويريدون الآن أن ينعتوا أنفسهم بالرحمة من خلال حمار ، سأكون غبيا بالفعل إن سمحت لهم أن يحققوا ذلك .
أنا لست أكيدا مما تفوهت به قبل قليل ، للأسباب التي ذكرتها لكم من قبل، لكنني أتمنى أن تعلن القنوات الفضائية نبأ عاجلا يذكر فيه :
أن الحمار العراقي "smoke " الذي نال إعجاب الأمريكان قد أصبح بطلا شعبيا بعد أن نجح في القيام بعمل بطولي عبر فيه عن رفضه القاطع للجهود الأمريكية التي تسعى إلى ضمه لحملات دعم تسعى إلى مساعدة ومواساة عوائل القتلى والجرحى الأمريكيين الذين أساؤوا لبلاده ، بينما لم ير أحد قد قام بدعم ومواسات أبناء العراق .
انتهى البيان ......
أحب أن أطمئنكم وأعدكم بألا أرتدي الحزام الناسف ، حتى لا يتهموا الحمير أيضا بالانضمام إلى المنظمات الإرهابية .
أتمنى من كل قلبي ، أن أقول لا ولو لمرة واحدة ،لا واحدة في وجه أمريكا ، تعادل صمتي وصمت أجدادي،منذ خلقنا وإلى يومنا هذا ، لأنني سأحقق من خلالها ما عجز بعض الآدميين عن تحقيقه، كيف سأتمكن من فعل هذا.. لست أدري ؟ ولا أعرف ما الذي يتوجب علي فعله بالضبط ، ولكن ... دعوني أفكر .
الأديبة والقاصة الجميلة سولاف
في أوقات الحروب والفتن والموت الموزع بالتساوي مجانا على افراد الشّعب وفي أوقات تلاطم أمواج البحر وغياب الشّمس واغتصاب الدروب و الشّوارعمن قبل المجنزرات وتلوث السّماء بالأباتشي
أقول في تلك الأوقات نحن بحاجة لما يرفع المعنويات ، بحاجة لقناديل وشموس وضمادات من الكلمات المواسية والحاثّة على التّطلع لغد أجمل وأطيب وأطهر وانقى وأصلح و...أسعد
لكن واسمحي لي لو قلت أن ماقرأته هنا يثبط الهمم ويبعث الحزن والجرح في قلب العراقي الذي لاتنقصه جروح أخر اصلا ..
وتقبلي تحيتي لهذا النفّس الطّويل في القص
التوقيع
ممن اعود ؟ وممن أشتري زمني ؟ = بحفنة من تراب الشعر ياورق؟
عناية الأستاذة القديرة ... سلاف هلال ..لقلبك الفرح والمسرّة ..
المخيّلة التي أبدعت هذا النص .. مخيلة عبقرية ومذهلة ..
الفكرة الأساسية في النص .. مذهشة وجديدة قد تكون قد وردت في السابق .. مثل كليلة ودمنة لابن المقفه مثلا .. ولكن بعيدة جدا هنا وذات عمق ورؤى ووعي ,,
والمتميز في النص هو الأسلوب البسيط واللغة البسيظة .. المجببة وبالرغم من ذلك .. إمكانية تعدد الإسقاط..
أنا أشكرك كثيرا على هذا النص .. ولعدّة أسباب ...وأتحفظ على ذكرها ..
مع المودة والتقدير لحرفك وشخصك أستاذتنا
وعبق الخزامى
التوقيع
أنا شاعرٌ .. أمارس الشعر سلوكا وما أعجز .. أترجمه أحرفا وكلمات لا للتطرف ...حتى في عدم التطرف
ما أحبّ أن نحبّ .. وما أكره أن نكره
كريم سمعون
الأخت سولاف
تحية رمضانية
بعمق السرد الجميل
فهذه يا سيدتي حكائية جميلة
وسر متتابع
وبسيط وسهل
وجميل
ولكنك مثل كل مرة يكون السرد مسيطراعلى عموم النص القصصي
الأديبة والقاصة الجميلة سولاف
في أوقات الحروب والفتن والموت الموزع بالتساوي مجانا على افراد الشّعب وفي أوقات تلاطم أمواج البحر وغياب الشّمس واغتصاب الدروب و الشّوارعمن قبل المجنزرات وتلوث السّماء بالأباتشي
أقول في تلك الأوقات نحن بحاجة لما يرفع المعنويات ، بحاجة لقناديل وشموس وضمادات من الكلمات المواسية والحاثّة على التّطلع لغد أجمل وأطيب وأطهر وانقى وأصلح و...أسعد
لكن واسمحي لي لو قلت أن ماقرأته هنا يثبط الهمم ويبعث الحزن والجرح في قلب العراقي الذي لاتنقصه جروح أخر اصلا ..
وتقبلي تحيتي لهذا النفّس الطّويل في القص
الأديبة الرائعة كوكب البدري
أتريدينني أن أناقض نفسي وأكتب ما لا أفكر فيه وأشعر به
ذكرت في أول ردك أن في زمن الحروب والفتن و.و.و، نحن بحاجة لما يرفع المعنويات وأني أتساءل من يرفع معنويات الكاتب حين يهزه حدثا ما ، ماذا ينتظر القارئ مني أو من غيري حين تنتابنا حمى الكتابة تحت تأثير كل ما ذكرتيه
أنا آسفة إذا كان النص قد تسبب في إيلامك وآسفة على تأخري في الرد
شكرا لمرورك الذي يسعدني .. يسعدني دائما
دمت بخير غاليتي ورمضان كريم
عناية الأستاذة القديرة ... سلاف هلال ..لقلبك الفرح والمسرّة ..
المخيّلة التي أبدعت هذا النص .. مخيلة عبقرية ومذهلة ..
الفكرة الأساسية في النص .. مذهشة وجديدة قد تكون قد وردت في السابق .. مثل كليلة ودمنة لابن المقفه مثلا .. ولكن بعيدة جدا هنا وذات عمق ورؤى ووعي ,,
والمتميز في النص هو الأسلوب البسيط واللغة البسيظة .. المجببة وبالرغم من ذلك .. إمكانية تعدد الإسقاط..
أنا أشكرك كثيرا على هذا النص .. ولعدّة أسباب ...وأتحفظ على ذكرها ..
مع المودة والتقدير لحرفك وشخصك أستاذتنا
وعبق الخزامى
الشاعر القدير عبد الكريم سمعون
لقلبك الفرح والمسرات أيضا
يا لروعة قراءتك التي أسعدتني فقد أجدت التحليل
لا أخفيك سرا بأن هذه الفكرة استوحيتها من خبر ذكر فيه أن الحمار الذي حظي بحب جنود المارينز يتم التفاوض على نقله إلى أمريكا وقد تم نقله بالفعل
تخيل أن الأمريكان الذين جلبوا لنا الخراب يتعاطفون مع حمار لينقذوه من واقعه المزري على حد قولهم "ياللعجب"
شكرا لحضورك الرائع
تحياتي وودي