خرج من منزله ، قبره الذي يتمغط فيه منذ ستين سنة ، وما انفك يحاول الانفلات منه وهو يسحل عمره بعد سنوات انتهى مفعولها مبكراً ولم تعد تصلح إلا للعد .
كانت حياته متحفا ً للفطرة / العبث / القلق / الغريزة , هذا اليوم بالذات طحن ذكريات ماض ملفق بالتصحر ، الحذر ، بقايا رجل مرتبك ، سلك شارعا ً فقد السواد لشدة التصاق غبار الزمن عليه وأكل الدهر سواده وقيأه في جوف الليل في محاولة لتأجيج حالة السكون .
الشارع الذي لا تزال بصمات المارة مطبوعة عليه ، هو الشارع الوحيد الذي ما فكر يوما أن يسلك غيره أو لم تكن له رغبة أو خيار غير ذلك ، فهو يؤدي الى بقايا حديقة مسيجة بأسلاك شائكة ، دخل الحديقة من فتحة أكثر هيبة وحشمة من الباب الرئيسي ، عندما تأكد أنه ألقى القبض على ما تبقى من حياته ، جلس في المكان الذي اعتاده منذ ثلاثين سنة حتى ارتسمت تحته دائرة صغيرة من الحشيش الميت ، مات تحت ثقل عجيزته وطول مدة جلوسه ، هذا المكان الذي لم يغيره قيد شعرة ، حتى صار محط أنظار الفضوليين وجزء لا يتجزأ من كينونة الحديقة ، القبر البديل الذي يؤمه النازحون من قبضة الزمن ، نبت عليه سالم علوان مثلما نبت العشب وصارت الحديقة ملغومة بالأشجار التي تشبه الى حد ما شعر المجانين ، لفت انتباهه صبي يذاكر على مقربة منه ، عصر نخب دماغه وركز بكل ما يحمل من انكسارات وتهويم ووحشة : - لو كان احد أقاربي هنا لسرعان ما صرخ بي - أنت الآن قبل خمسين سنة – نعم هاأنذا صبي.. ، نهض سالم من صومعته - والله كانت لدي نفس هذه الملابس عندما كنت بعمره ، ونفس الحذاء أيضا .. يا الهي ما هذا الشبه .. اقترب من الصبي وسأله : -
- بأي صف أنت؟
- في الخامس الابتدائي.
- ماذا يعمل والدك؟
- مات قبل ستة أشهر.
- أنا أيضا مات أبي عندما كنت في الخامس الابتدائي ، حذاؤك يبدو كبيرا، أليس كذلك؟ عندما كنت في عمرك كان عندي نفس هذا الحذاء تماما ، وكأنه هو ، وكان كبيرا فكنت أحشو مقدمته بالقطن..!
- أنا أيضا حشوت مقدمته بالقطن.!
أخرج الطفل من جيب سترته التي تشبه سترة سالم علوان بالضبط صوراً التقطها قبل أيام ، صاح به سالم : الله..
- هذه صوري .. هذه ملابسي .. متى التقطتها .. إنها صوري و…
ضحك الصبي وخلع ملابسه قطعة بعد قطعة ، توسدها قريباً من سالم علوان ، وضع تحت رأسه جبلا ً ، حجرا ً ، زمنا،، نام الصبي ، شاهد سالم آثار حروق واضحة على فخذ الصبي ألأيسر تشبه خارطة حياته قبل التدمير ، وبانتْ فيها تضاريس عمره .
رفع سالم العلوان ثوبه الى بطنه وهو يصرخ – ياناس ، ياعالم ، ما الفرق بين الخارطتين، إنها نفس مساحة التدمير، نفس التضاريس ، لكن خارطتي أكبر.
نهش ذكرياته الراكدة في رأسه الخاوي ، شاهد شريط حياته بأم عينيه الفاترتين اللتين تشبهان فانوسا معتما ،. شريط حياته الذي حمّضه في قعر رأسه، كانت حافات الشريط متآكلة من عبث الزمن / القلق فلم تظهر حياته واضحة أمامه لكنه شاهد الذي يريد أن يراه ، صحا من غفلته ، أراد أن يغلق ملّف ماضيه ويعطّل برنامج ذاكرته المؤهل للعطب ، حزّ في نفسه هذا التداعي والصلف ، لذا خلع ملابسه قطعة بعد قطعة ووضعها تحت رأسه مثلما فعل الصبي أمامه قبل قليل ، أخذ قيلولة ، بعدها حاول أن ينهض ،، المحاولة الأولى فاشلة ، الثانية فاشلة، في المحاولة الأخيرة للنهوض حرّك رجله ، حاول أن يسحبها ، رفس الأرض ، بلع ريقه ، تيبّس لسانه ، لوى عنقه وأداره قليلا ً محاولا ً وضع رأسه بأتجاه القبلة ، عيناه نصف مغمضتين ، بينما نهض الصبي على صوت الشخير وهو ينظر الى مستقبله المسدول على مقربة منه كشجرة مقلوعة بإمتعاض وسخف عميقين ….
وهكذا تستمر الحياة بالرغم من كل ما فيها
الأستاذ سعدون
إشتقنا لحروفك ووجودك بيننا
طريقة سردك تشد القارئ
لتكون هناك في الحيقة مع سالم علوان وذكريات عُمر ومسيرة تعب
يسعدني أن أكون أول المصافحين لهذا الأق
لأعلقها بالصدارة
دمت بخير
تحياتي
أستاذنا الشاعر الكبيرعبد الرسول معلة
محبتي
أيها العذب الجميل ..فراقك مرٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌٌ لا أجرعه
أشعر أننا الآن التقينا وفي بيتي .، والله هذا شعوري ياأستاذي
أرد عليك بعض الاحيان وأتقصد ترك الهمزات (حرشه)حتى ترد علي
مكانك في القلب ..اخي وحبيبي
التوقيع
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 03-26-2011 في 10:29 PM.