وأنتم، يا أبناء هذه البقعة الصغيرة من الأرض، أما كفاكم مجدًا – إن كنتم للمجد طالبين! – أن بلادكم نَظَمَتْ صلواتِ نصف سكان الأرض، فأعطت أفكارَهم أجنحةً وقلوبَهم ألسنة، وطافت بهم الأزليَّة والأبدية، وسَمَتْ بأرواحهم إلى عرش السناء الأسمى؟ أم ما كفاكم فخرًا أن تكون بلادكم في كلِّ يوم وجهةَ الملايين من الأحداث والشبان والكهول والشيوخ في كلِّ أقطار الأرض، كلَّما جاعوا إلى أكثر من الخبز وعطشوا إلى أكثر من الماء؟
فكيف لا تخجلون من بعد ذلك أن تحسدوا غيركم وتقلِّدوه، وأن تحتقروا أنفسكم وتكبروه؟ أم كيف تتبرَّمون بمذاهبكم، وهي تراثكم الأثمن وتراث الناس أجمعين؟
ألا فتشوا مذاهبكم بإخلاص. فتِّشوها بلهفة العاشق. فتشوها بطهارة الطفل، وحرقة التائه، وإيمان المحتضر، تجدوا فيها السلامَ الذي إليه تطمحون، والطمأنينةَ التي بها تحلمون، والحريةَ التي باسمها تترنَّمون.
أنا هو المنوال والخيط والحائك، وأنا أحوك نفسي من الأموات/الأحياء، أموات الأمس واليوم والأيام التي ما ولدت بعد والذي أحوكه بيدي لا تستطيع قدرة أن تحله حتى ولا يدي.
غادة ،
أعرف أن الكثيرين كتبوا إليك ، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء ، خصوصاً إذا كانت تُعاش ، وتُحس وتُنزف .
ورغم ذلك ،
فحين أمسكت هذه الورقة لأكتب كنت أعرف أن شيئاً واحداً فقط أستطيع أن أقوله وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته وربما ملاصقته التي يخيل إلي الآن أنها كانت شيئاً محتوماً ، وستظل كالأقدار التي صنعتنا :
لطالما فتشت عن الحجر الأسود الذي يظهر روح الموت .. وعندما أقول لطالما .. أتخيل بئراً لا قعر ،
نفقاً حفرته بأصابعي وأسناني ..
يحدوني الأمل العنيد بأن أبصر ، ولو لدقيقة ، لدقيقة متمادية خالدة .. شعاع من نور .. شرارة من شأنها أن تنطبع في مآق عيني وتحفظها أحشائي مصونة كسر .
فتكون هنا ساكنة صدري مرضعة الليالي البلاختام ..هنا في هذا القبر في باطن الأرض الرطبة المفعمة برائحة الإنسان المفرغ من إنسانيته بضربات معزقة تسلخ جلده وتنزع منه البصر والصوت والعقل ..