قراءة في قصيدة - نوافل السبي - للمبدعة بارقة أبو الشون قراءة عايدة بدر
قراءة في قصيدة - نوافل السبي - للمبدعة بارقة أبو الشون
نوافل السبي
في قصور الحضارة
1-إيماءة بغداد
الشمس اذ تبزغ ... تكبر وشاحات ملونة على جناحي
دجلة.....
هلا تكفين عن النشيد
قالت جدتي:
أرى ان الليل مدجج برماد الأخبار
هلا سمعت
ويستمر النشيد...
(مدللة بغداد من أهلها وعشيرتها وجيرانها...
مدللة ...........)
قالت جدتي:
ماذا تريد أمي
وهل سيأتي التتار بثوب اخضر
الأضرحة لاتحاك لها الأكفان ....
هلا سمعت :
هلا تكفين عن النشيد
كانت الساعة الأولى بعد الحرب
الدروب تفضي الى ضحكات مجهولة
و
السماء تهطل
دم السطور
رتلي ماتبقى من حضارة عارية
من الروح
رتلي
الجثث تحملهم على أكتاف الليل
وعنفوان الرماد
اطوي الصحف أمي
النبض يخبو بين السطور
ولن ينقطع
الأنين بلا حدس بلا وريد
مهجورة الخطى
والنهار يعاتبني
يمشي لوحده بين دجلة
أماه
خذي القلب وهزي مهد الوليد
تساقطت ملامحي ....جدائلي
سأعود بعد الرمق الحزين
والصرخة الأبدية ذات مخاض..
قالت جدتي :
فكي رباط الحلم
انك ياأبنتي
سبيه.....
وعادت تنشد وسط النحيب
سأكون بعد الرمق الوحيد رهينة...
القراءة / عايده بدر
نوافل السبي
في قصور الحضارة
أمام العنوان يحق لنا أن نقف كثيرا فاختيار الشاعرة له ليس عشوائيا إذ أنها ربطت بين ( السبي ) و ( قصور الحضارة )
و هو ما كان جائزا وجوده في عصور مضت حيث كانت السبايا و من وقعوا في الأسر يقدمون هدايا و جوارى و عبيد في قصور الخلفاء و الحكام و الامبراطوريات صاحبة الحضارة
نعود للعنوان و الربط بين (نوافل ) و ( السبي ) ، و النوافل هي كل ما زاد عن الفرض و الغنيمة و الهبة و العطاء
و (نوافل ) هي جمع (نافلة ) لغير العاقل و اظنها كانت مقصودة من الشاعرة لانتفاء صفة القدرة على الاختيار و الارادة للسبايا و الجواري و العبيد فكأن العنوان هنا يلخص حالة معاشة كانت في الماضي و استحضرتها الشاعرة اسقاطا على الحاضر فكانت ( نوافل السبي في قصور الحضارة ) فربطت بين السبي و الحضارة
من ناحية اخرى يمكننا اسقاط هذا التركيب الرمزي ليس فقط كحالة اجتماعية ناجمة عن وضع سياسي نعيشه الآن في ظل ما يأتي من تطورات و وجود هيمنة سياسيو- دينية تفرضها وجود قوى جديدة تحمل مفاهيم الماضي و تحاول إلباسها للحاضر
يمكننا أيضا أن نسقط رمزنا هنا على وضع المرأة بصفة عامة في ظل مجتمعات لا تزال غير قادرة على الاعتراف بالمراة كقوة مجتمعية حاضرة و مؤثرة فتنظر إليها على أنها سبية لا حق لارادتها و لا حق لاختياراتها
ما نلاحظه هنا أن الشاعرة في رسم لوحتها استخدمت تكنينك السرد أحيانا و لجأت للحوار المسرحي الذي يعطينا بفضل وجود اشخاص متعددة سعة مكانية و زمانية للفعل
و الشخصيات المستخدمة و التي تحرك ذروة التصاعد هنا ثلاث نساء من ثلاث أجيال مختلفة الجميع يربطهن وحدة الدم و الأصل و المصير فمن عهد الجدة و حتى عهد الحفيدة و لا يزال الصراع قائم لم يتغير مضمونه و إن تغيرت أدواته
نحن في حالة حرب مستمرة لم تنته ، و توتر تتصاعد أبخرته بين الجميع ، ثلاث أصوت متداخلة حتى لنحتار قليلا في تفكيك هذه الجديلة لشدة تشابكها و ترابطها
نسمع صوت الجدة يرتل بالنشيد تزين وجه دجلة الحزينة و تذّكر بغداد بأيام عزتها و مجدها وقت كانت بغداد وجه الحضارة و الجدة هنا لا تحيل صوتها للماضي رغم أنها تتحدث عنه لكنها تردد النشيد و كأنها تحث بغداد على النهوض وأن تقف بوجه من يريدون إطفائها للأبد و تذّكر دجلة بألوان الفرح على شاطئيها...
( الشمس اذ تبزغ ... تكبر وشاحات ملونة على جناحي
دجلة.....)
(مدللة بغداد من أهلها وعشيرتها وجيرانها...
مدللة ...........)
لكننا نشاهد مع آخر مقطع في القصيدة و الذي يختتم بصوت الجدة أيضا نوعا من الاستسلام للواقع المرير و كأنها تلقي بحجر الحلم في وجه الماء فتتحرك كثير دوائر لكنها تسكن على حقيقة واقعة أنها سبية كانت و ستظل و الخطاب الموجه للحفيدة يفصح عن ذلك
( قالت جدتي :
فكي رباط الحلم
انك ياأبنتي
سبيه.....
وعادت تنشد وسط النحيب
سأكون بعد الرمق الوحيد رهينة...)
بين تراتيل الجدة نجد هنا صوت الأم التي تنهرها عن استكمال النشيد و تطالبها بالكف عن تذكر أيام مضت و ليس منها الآن شيئا واقعا
(أرى ان الليل مدجج برماد الأخبار
هلا سمعت )
( وهل سيأتي التتار بثوب اخضر
الأضرحة لاتحاك لها الأكفان ....
هلا سمعت :
هلا تكفين عن النشيد )
صوت الأم هنا يتوسط صوتي الجدة التي لا تزل على تشبثها بوجه الماضي العزيز ووجه الحضارة التي لا تليد وبين صوت الأم التي تقهرها أخبار الحروب ، مذياع ينعق بصوت خراب ، شاشات تبث الوجع و حريق الأرواح و الأجساد ألوانا ، و صحف لا تفيض من ماء السكون على الجرح بل تزيده
و عندما نتوقف هنا عند تساؤل ( هل سيأتي التتار بثوب أخضر ) نتبين لأي مدى تقف الأم على واقع ما تراه مستحضرة من الماضي البعيد صورة بغداد تتهاوى حضارتها تحت سنابك التتار القادمين بالخراب حينها و االآن لتتر الجدد القادمين بذات الخراب فلا فارق و لأنها تعرف مسبقا نتيجة الخراب فإن التساؤل هنا ليس إلا استنكارا لمن يظن أن التتار الجدد سيحملون وشاح الأخضر و السلام ليّأمنوا الدور و الرواح و الأجساد على أنفسهم ، ثم تعقبها بعبارة تكثف بشدة هذا الوجع المتوالي منذ سنوات عديدة ( الأضرحة لا تحاك لها الأكفان ) و الأضرحة هي قبور الأولياء و الصالحين و هل لا يكون الشهداء الذين امتلأت بدمائهم هذه الأرض أولياء و صالحين أيضا لكنهم بلا كفن فالشهداء هم الوحيدون الذين لا يتم تكفينهم هذا إذا وجدوا بالأسس و لم يكونوا أشلاء متناثرة تمتلأ بها الأرض
أما صوت الحفيدة و الذي يستكمل اللوحة بتفاصيل نحتاجها لنتبين عمق هذا الوجع فيأتينا كطرف ثالث في هذا الحوار و يمكننا أن نقسمه لمقطعين لكنهما متداخلان فمقطع منهما يسرد شوااهد الصراع الذي نعيشه
( كانت الساعة الأولى بعد الحرب
الدروب تفضي الى ضحكات مجهولة
......
السماء تهطل
دم السطور
الجثث تحملهم على أكتاف الليل
وعنفوان الرماد
اطوي الصحف أمي
النبض يخبو بين السطور
ولن ينقطع
الأنين بلا حدس بلا وريد
مهجورة الخطى
والنهار يعاتبني
يمشي لوحده بين دجلة )
و المقطع الأخر يتوجه بالحوارفي اتجاهين متضادين بين لجدة و بين الأم ، فتوجه حديثها للجدة أن تستمر في الترتيل فرغم فراغ الحضارة الحالية و عريها لكننا نحتاج أن لا يصمت صوت الحضارة البعيدة ليظل يذكرنا
( رتلي ماتبقى من حضارة عارية
من الروح
رتلي )
ثم تتوجه للأم مناشدة إياها أن تستمسك بالمستقبل الآتي مع مهد الوليد فما تبقى من الابنة في ظل هذا الصراع الدائر ملامح تساقطت حزنا و جدائل فككتها الأوجاع
لكننا مع حرف السين الأخير نجد انفراجا تترجاه و تأمل به و إن كان بعيدا في الوقت الحاضر خاصة و أنها ربطته بصرخة مخاض أبدية فكأن تعثر هذا المخاض أمر دائم فهل ينتج عنه ميلاد جديد
أماه
خذي القلب وهزي مهد الوليد
تساقطت ملامحي ....جدائلي
سأعود بعد الرمق الحزين
والصرخة الأبدية ذات مخاض..)
القصيدة ذات حمولة متعددة و اتجاهات الحرف تضرب بعمق جذورها ترسم وجعا منذ أزل هذه الأرض و حتى الآن ، و السبايا كانوا و لا يزالوا و سيظلو طالما ظلت صرخة المخاض الأبدية لا ينتج عنها تغيير حقيقي يتناسب و كم هذا الحزن و الوجع
و السبي ليس حالة فرد أو جنس و نوع لكنه يمتد ايضا للأرض و الوطن الذي تتنازعه جحافل التتار الجدد حاملين رايات السواد
عمق الحرف هنا يجعلنا كلما فرغنا من تلاوته نعود إليه مجددا ملحمة أود لو تكتمل بقيتها فالصورة بكثافة و عمق متفردة بها شاعرة تتنفس الوطن حرفا حرفا
عايده بدر