قراءة تشكيلية في نص حواس أخرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــ عمرمصلح
كعادتي حين تداهمني الهموم , أتسلل متوارياً عني , وأتسكع بين دكاكين الأدب , ومقاهي الفنون .. لاقتناص نصٍ أو لطخة لون أزين بها أمسيتي الموغلة بالحلكة , والمفعمة بالدخان .. لأطرد النعاس الذي يغتال الجمال.
فتلصصت من خلال نوافذ ( النبع ) على نتاجات بالغة الألق , فاصطدت نصاً صنعته ابنة الحداد بمهارة من يجيد استعمال مطرقة الكلمات وسندان المخيال.
فأجلسته قبالتي طيلة ليلة كانونية طويلة , محاولاً مسامرته .. وإذا به ترتيل , من تراتيل العشق .
نص يشي بوعي , يفرض المباشرة حيناً , ويتخندق خلف مخيال خصب يختزل الزمكانية حيناً آخر.
لتتداعى الكلمات بتلقائية طفل بريء , وقوة رجل احترف الشدائد , وشفافية أنثى تعي ما تمتلك من ثراء عاطفي باذخ.
حينها قررت التلويح للشاعرة بالتحية , وإدراج انطباعي هذا في خانة التعليقات .. لكني تراجعت فوراً بعد أن اكتظت البلابل واليمامات على شبابيك النص .. فانبرى ( سمعون ) وأحال الأمر إلى قضية تبحث عن حلول , وتفننت ( أفنان ) بصياغة إنموذجاً للمعنى المروِّع للإنهيار , وعتقت( ديزرية ) خمره حين دافت الفوضوية بالهذيان.
لذا قررت أن أغرد خارج هذا السرب الأنيق , وأطلق صفيراً خاصاً , قد لايكون برتبة شدو من سبقني .
لإيماني بأن الفنان البارع هو من لاينضوي تحت قوانين الإنضباط , كونه منفلت أصلاً بأفكاره واستعاراته .. وجدتني متماه مع هذا النص حد الإنصهار .. فطاب لي أن أسميه ( نصاً تشكيلياً ) كونه مرسوم بحسرة فنان , ومكتوب بأنين شاعر.
فانثال الحلم متنازلاً عن ورقة التوت
( يربكني هبوبك )
( يحيل بعضي إلى منديل يمسح رضاب شفتيك )
( ويترك بعضي نوراً يترنح على كتفيك )
( في الحافة الأخرى من ذاكرة الجوع )
هذا الإنثيال المستوفي لشروط الصورة والتكثيف , المشفوع بالعقدة والصراع .. تهادى متجملاً بتعمية الزمان والمكان.
فابتدأ بثيمة الحيرة والإرتباك .. مرتدياً لبوس الوضوح والمباشرة لإعطاء فرصة للتعرف على حجم ونوع وعمق علاقة الشاعرة بالمقصود.
وهذا تأسيس للوحة بألوانٍ ترابية تعرب عن إحباط ترعرع في كنف فشل عاطفي ميؤوس إصلاحه .. أي إنه إقرار حظي وخطي بالبدء بالعقدة .. وإصدار الحكم بالضياع مع إيقاف التنفيذ إلى أجل مسمى .. فآل إلى صراعات داخلية ليخلق قلقاً هيمن على بنية النص .. مما ولَّد شعوراً بالوحدة المضنية , وبالفقدانات في ليالٍ عجاف , ضغطت على الرغبة المكبوتة بعد يأس من ترميم العلاقة مع الغائب ( القريب / البعيد ).
والإعلان عن ما خبأتْ
( خبأت شيئاً من مقدسات الكاهن )
( وسنبلة )
فالشعور بالإغتراب , والوحدة قاد النص إلى مد خطوط التلاشي , بغية رسم منظور مطبوع في المخيلة .. فانفلتت المسافات , واندلق الشكل مسطحاً بكتلة لونية غامقة لتضيع الخطوط , وتهرب خارج الأفق .. فسارعت الأنثى / الشاعرة إلى إسقاط لون أصفر في رحم الكتلة كمحاولة لفتح نافذة على العقل الواعي لإجبارها قسراً على الإعتراف بما خبأت من مقدسات الكاهن .. والتلويح بعشبة ( كلكامش ) السنبلة.
معززة ذلك ما ألحقته ( الشاعرة ) بالذهول من استقراء الأسطورة.
( تقرؤني الأسطورة )
( شغب سمكة خرافية )
( يحلو لها الهرب عكس التيار )
ذهول شبيه بالإنكار الذي يصيب المفجوعة بمن لن يعود .. أو شبيه بعانس سئمت الإنتظار لكنها أدمنته .. أو هو انتظار المخلِّص لمن عجز عن تفسير معميات الكون , وتكالبت عليه الأسئلة .. وهو بالنتيجة صراع , وشعور بالقلق .. فينهض الـ ( أنا ) ليلقي بتبعات الأزمة عليه
( وفي عينك طفولة )
( ترمش لي بهدبها )
وهذا تأكيد على سيادته .. لكن الشاعرة تعود فجأة إلى مكانه الماكث في الحدقات , وهو احتيال من احتيالات الـ ( أنا الأعلى ) فتهمس
( وإذ بي أنثى )
( ينساب ماء أنوثتها )
( بين اصابع النهر )
( فيتبختر كلي على ضفاف الصحو )
هنا تتسرب روائح ماء الذهب , وتترنح الكلمات , لتتوضح اللوحة أكثر .. وتغادر طور التأسيس , ومد الخطوط الرئيسية .. وبارتعاش ناتج عن غضب مشحون بالأنوثة تمتد خطوات ثقال , لترسم خطوطاً متقطعة تتلاشى في قلب اللوحة
( حورية .. لا تسع جنتها إلاك )
وبذلك تكون قد أضافت لوناً زهرياً , كمعادل لوني .. لكن التشظيات تبقى سيدة المشهد كمحاولة إدخال الروح إلى الجسد .. أي صيرته هلامياً وغير محدد الملامح.
فأعلنت غياب إرثها الأرستقرطي تأكيداً على حجم الصراع لتعلن انهيارها المغلف بالكبرياء.
( يتدلى سر الوقت )
( من أغصان شجيرة )
( تكاد تورق ألف حلم )
( تزهر ألف نماء )
( وشهقات ناطحة الخد )
( أمعن حولك .. هذا الهواء )
( مررته في صدر أناتي )
( ومددت له الطريق صوب رئتيك )
( أنظر .. ما أشهاك تحت افياء لن تشيخ )
تحصنت خلف أبواب أنوثتها المغلقة لتبرر طهر مشاعرها .. واثقة من أنها ستزهر ألف نماء .. وما هذا إلا نكوص إلى بداية النص .
وكان التمني صريحاً وغير منقب بـ ( لو ) أو ( ليت ) , كي لا تزخرف لوحتها بالحروفيات.
وحين وضعت لمسة الإعتراف , وهي بكامل قواها العقلية , وبدون الرجوع لمشاورة المشاعر
( موجة موقوتة تتكئ ملح الجنون )
( وخطو عطرك يضمخ جوف البحر )
( ستنتشي الفضاءات )
وهذا ضوء يبرر الظل القابع في شرق الروح , ضوء يتلألأ بفعل زيت معتق منذ قرون.
وتصرخ , رغم النعاس الذي أثقل الجفون
( عليك ان ترتدي هزيمتي )
( كيلا أختنق )
فانداحت حصون غيابه , بانفلات خيول الرغبة , من معاقل بريق العيون .. لتهتف بصوت رخيم
( ينتعش صوت أنوثتي )
( يرتعد صدى ديمومتي )
( مدهشة انامل السماء )
( حين ترسم خصب مواسمي .. بين خطوط راحتيك )
( ويعوي الذئب القابع في أقصى المخدع )
( ما أحوجني إلى مليون خطيئة )
( فتهدل حمامة الحنان )
( تتمرغ في تراب غفرانك )
( تستجدي شفاعة وجدانك )
فترتسم صورة ( الوطن / المكان ) في المخيال , وتنثر فتات زيت قرمزي
( رمم يا وطني حضاراتي )
وهذا أجمل تذييل للـ ( النص / اللوحة ) .. ليتلوه إمضاء بالغ الأناقة
( ألآن كلانا من فصيلة الجمر )
( كلانا من سلالة الزمهرير )
ليختلط اللون الساخن باللون البارد في أسفل اللوحة , فيسيل لون رمادي
( كلانا يحبو إلى الإنسلاخ وميراث المجد )
( وأنا اخذتك شهيقاً , وطرحت الكون زفيرا )
( لتتمرغ بين الهواجس والرغبات )
( ستطفئ قلب عشتار وتنحر نهد الزهرة )
( إن بحثت عن مخرج من دمي )
( لا تسلب البشرية متعة البكاء )
وهذا آخر ما خطته فرشاة أمل الحداد في هذه اللوحة المبهرة .. وهذا أيضاً آخر مفتاح ألقه في حضنها بعد ان حاولت فتح ما تيسر لي من خزائنها.
فألف تحية لهذه الشاعرة المبهرة.
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 12-24-2011 في 09:52 PM.
ياااااااااااه
أين أذهب من حمرة وجنتي المساء
وهروب الأبجديات منّي ؟
دعوني أتأمل هذه القراءة الذهبية حقا مرة أخرى وأخرى وأخرى
وأفيق من ذهولي وأعود بما يليق بها !
هل سأفيق؟
رباه...قِني خُرس أصابعي !!
قبل البكاء بدمعة...كان لزاما عليّ أن أفي بوعدي وأعود لـ أسكب مافي القلب من غبطة
بدأت بابتسامة ولن تنتهي رغم هذا المساء العابس...
وكعادتي ....حين تداهمني أشواقي الخارجة عن إرادة نبضي والخارقة نطاق وحدتي
يكتبني الحرف ...يترجمني الحلم وتنطقني الأمنية ...كتبت كثيرا للحب من أجل الحب
لكنني لم أحظ بقراءة تمنيتها كثيرا ممن يغوصون في عمق المعنى
لا لشيء...فقط لأجدني وحرفي......
(حواس أخرى) كانت محظوظة جدا جدا....أن تجلس قبالتك ليلة كانونية كاملة بساعاتها ودقائقها
وثوانيها المفعمة بالحلكة والدخان وريشة تنفرد بها وحدك....
أليس هذا من دواعي سروري وغروري ؟؟ لعمري ماظننت أن هناك من يقرأ حواسي كما قرأته أنت
كأنك تسكن مخيلتي وتعرفها أكثر مني كأنك عندما أجلست حواسي قبالتك...كنت ترسمني بكل تفاصيلي وتسبر أغواري...
لم أبرر طهر مشاعري لكنني الآن أدركت أن أجمل المشاعر تلك التي تكتبنا دون وعي منّا....
لم أكن على موعدٍ مع القلق في إحدى زوايا النص لكنني الآن أدركت أن بعض القلق لذيذ ولابد منه...
لم أدر أن رائحة ماء الذهب....ستراقصني حول أعاصير الغضب
لكنني الآن أدركت أن الأنوثة لاتكتمل إلا حين يمتزج رحيقها بماء الذهب
كتبت للـ أنا في ذروة انتفاضة الحواس
والآن وبعد هذه القراءة التشكيلية الذهبية لكل ألوان مشاعري وحالاتي مابين الذهاب والإياب
أدركت أن شعوري بالوحدة كان اللون الأبيض والأساسي في لوحة لا أظنها ستتكرر
رغم أن حواسي الأخرى لم تنته بعد ...
قراءتك أستاذي جديرة بي أن أتصالح مع حرفي....يوما ما !!
سأضمها في ذاكرة قلبي ضمن الأشياء الجميلة لهذا العام
لا بل ضمن أجمل الأشياء ...كتلك التي لن تتكرر في حياة المرء إلا مرة واحدة !
شكرا لك من عمق الحواس التي لم تكتب بعد
شكرا لك بحجم وطن يسكنني
كن بخير سيدي...لأكون
،،
أمــــل
جميل أن يُخرج الفنان ريشته الساحرة لتلون الحروف وتحدد بتؤدة مسار المشاعر
من خلال إحساس عالي .. إحساس فنان مرهف يلتقط ما وراء الحرف .. الموقف ..
يدقق في كل التفاصيل .. ويقتحم اسوار الامحدود
استطاع فناننا من خلال هذه القراءة أن يجعلنا نقرأ نص لمرتين الأولى من خلال الحروف
والثانية من خلال اللوحة التي تفنن في تحديد ألوانها .. معالمها .. تفاصيلها .. ومضمونها ..
شكرا للغالية أمل التي نجحت كلماتها في تحفيز ريشتك البديعة ...
من خلاله نصها الجميل " حواس أخرى " ..
حيث كان انعكاس رائع لمشاعر ارادت ايصالها للآخر بكل بهاء
تقديري لكما مع قوافل من الياسمين بلا حدود
مودتي المخلصة
سفـــانة
وشكرا لكِ غاليتي لهذا الحضور الأنيق كـ أنتِ
لازلتُ في دهشة وأنا اتأمل حروفي وهي تعانق ريشته
لتشكل لوحة مخملية تتدلى منها ألوان لم يكن في الحسبان..
عميق امتناني وباقات ورد
ومحبتي