غير أنّ نزعتي التي تميل للوطنية جعلتني أكتفي بحدود وطني العربي أُشَرِّح على جسده المنهك فصول ذاكرتي المعذّبة و هوس أفكاري الأرستقراطي و جنوني ذي الأصول الرّيفية في قمّة ازدهارها ... دون سائر اللّغات .... ذات أمسية شعرية حضرتها لوحدي و لي وحدي و لشاعر هو أنا، جلست أتفقّد اللّيل الكئيب و كأنّ نيسان بادل أيلول عزفه و شكله و شحوب ملامحه ... فبدا الطقس نيسانيا بملامح خريفية تبدّدها أحيانا شتائل الزهر المنتشرة و عطور الياسمين المتضوعة و الأشجار المكسوّة بحلّة العيد الفاخرة، قد تسمع من أعلى أغصانها فحيح أفعى مستعدة للاحتضار على جسدك المسكون بخوف فطري ... ملامحها قد يجبرها العهد الممضي بين أيلول و نيسان آن تتخلّى عن بعض أوراقها لتصنع ليلا أيلوليا منافقا ... جلست أفكّر و أسترجع من الذكريات ما عجز شال تلك المرأة عن محوها ... ذاكرة حرف العين المغلّقة على مصراعيها و كأنّ تشنّجات هذا الحرف الناري زرعت حواف الذكرى بأشواك مكهربة قد تمزّق خيوط ذلك الشال الوغد .. بعد سلسلة صعقات تَتْرُك للعزاء منطق القبول .. !! حرف مكرّر بتفاصيل غاية في الغرابة و الغواية البوليسية .... و النشاط الحزبي السرّي .. كأنّني وجدت في المصطلحات السياسية غايتي .. قد تكون أكثر تعبيرا من غيرها في وصف شرعية الحكم الأنثوي في حياتي .... وفي تفاصيل الانقلابات الشعرية و دستور كلماتي المقنّن بطريقة تسمو فيها القاعدة الشعرية المطرّزة بأزهار الياسمين على قوانين العشق المؤقتة العابرة لحدود العطر فقط .... و لأنّني أحب زهر الياسمين فقد أشهدته على قصص عشقي المنحوتة لوقت تعدّى الأشهر .... حتى أنّي اضطررت لتجميد الياسمين بقطع ثلج في مزهرية صُنِعت من زجاج و ألصقته بعد أن أدمن البرودة على باب غرفتي كي لا يكتسحه ذبول مفاجئ .. و يكون الصيف فلا أجد غير بقايا أزهار داستها أقدام شمس حارقة ترفض كأنثى أن تتخلّى عن شعاراتها و طقوسها .............................. حرف العين كما قلّبته مواجعي انتقاما من قسوة تلك المرأة .... تجسّد في أنثى ... وكأنّ الحرف في مملكتي زير نساء ... العين قد يكون أوّل نبض و أوّل تنهيدة طرحتها أنفاسي . حقيبة شوق تختلف عن جلّ حقائب السفر نحو مدينة العشّاق و لأنّ المراهقة لها أحكامها الشرعية أيضا فقد دوّنتها شعرا يتعقّب كل مخالفة راسخة لمبادئ الحب في حياتي ... أوّل قانون دوّنت قواعده و رسمت حدوده على الصفحات بعد أن عشت لسنوات الحب العرفي .... بمخاطرة الإنكار .. و العبث بمشاعر طفولية بجسد قد يتشّبه برجل .. قد يرتدي بذلة أنيقة و ربطة عنق فارهة الرجولة من انسكاب العطر العشوائي على حوافها و كأنّ التمرّد يوّلد سنوات من القحط .. لحظتها أدركت أنّ العطر المسكون بهوس الانصياع الكاذب لا يمكنه أن يقهر التعطّش لنشوة الحقيقة .. النّفاق الرشيق لا يحتاج لقياس خاص و لا للحظة تخثّر حتى يداري هفواته . كنت بعد في المرحلة الثانوية و لأنّ التقاليد في مدينتي القروية كما أشاء تسميتها .. قرية اعتنقت التحضّر بطريقة ما .. كان العين أنثى من طراز قروي متمدّن .. بحروف كلاسيكية و مذاهب عصرية غاية في الجرأة .. كما لم أعهدها قبلا .. صفوة خاطر لم تعهدها ثقافة الحروف لأنّها كانت أنثى، أنثى من طراز خاص .. الغروب فقط من يصلب أنوثتها و يتحرّش بحمرة شفتيها المنتشلة و كأنّه وشم من صديد .. كنت أرمقها و هي تتهادى فوق أجنحة ليلة ماضية و أنا أرتشف من فنجان قهوتي الصباحية و أرمق قدّها المرسوم ببراعة رسام مجنون على واجهة ذاكرتي للفرجة النسائية .. لكل أنثى حبلت من أفكاري و مرّت في لحظة عشق من هناك .. حرف العين طار بي من عالم ساذج، من عالم الرّسم بالكلمات . الحسّ السطحي المكّهرب على صفحات الدفاتر إلى التجربة الميدانية القاسية و الهادفة أيضا .. و المنطلقة .. و المحفوفة بخطر الاجتياحات العسكرية المفاجئة .. بزي مدني ساذج .. بأنفة مبتذلة . و كأنّها فترة تربّص خضتها قبل دخولي العاصمة ... حتى أنطلق فكريا و جسديا و أنهل من عبق الحروف المرَّصعة بقطع التجارب الحيّة البلورية .. وصولا للماس الأصلي .. قد تكون تلك التجربة، أوّل تجربة شاعرية في حياتي .. صرخت من بين أحضانها بصوت رجل، بعد أن ضمّتني طفولتي لأجيال قروية .. !! رجلا يشعر لأوّل مرة بميل نحو أنثى ... كان ذلك يكفي لأشعر معه أنّي تجاوزت سنّ الطفولة .. العين ... أنثى قدمت من ناحية أخرى من القرى المتحضرة أيضا و قد تكون أكثر من ذلك بقليل ... لتمكث لدى شقيقتها المتزوجة بمدينتي ... و لأنّها واربت طفولتها ... و تنّصلت من تقاليد الأسر الجزائرية التي تزّج ببناتها في البيوت حتى لا يقذفهن القدر بشتيمة ما .... فقد خرجت لتتصفّح دفاتر أنوثتها خارجا و تستعرض رقصاتها الجنونية على مرأى من العالم الخارجي، المحروم من إطلالة أنثى .. بانحناءات جسدها المكشوف و فواصل التعقّب .. !! قريتي صغيرة و كانت هي أيضا جميلة لحدود الهذيان ... وزّعت جمالها قطعة، قطعة على شباب القرية لتشتري قلوب الكثيرين ... غير أنّها التفتت نحوي و أشعلت لفافتها من دخان احتراق طفولتي، حاصرتني بقذائفها و خططها المحبوكة ... و كنت فتى جلّ ما يميّزني خجلي و عوالم طفولة قاربت على السبات .. غير أنّ وسامتي تجاوزت بطشها فانقادت لي و طوَّقتني بعد أن شعرت بوخز من رجولة متوارية .. و قطرات مطر تفزع في غطرستها غيوم الشتاء .. كانت أوّل تجربة نسائية تعبر ممري المقفل لسنوات و تتجاوز نفقي المظلم ليلا دون أن يردعها الظلام الدامس و لعبة مغارة الخوف التي اصطنعتها لنفسي قبل زمن .. و كأنّه بعدها قد ولّى زمن الخوف .. كانت رشيقة، فاتنة .. تحيك خطاها بسحر يجعلك تتعثر بخيوط مِشْيتها .. فتتبعثر فوق أرصفة خالية إلا من ظلالها و لا تكاد تلملم نفسك حتى تستوقفك مناهضة تحدي أنثى .. كانت نقطة تميّزني عن كل شباب القرية .... و علامة استفهام تُرْسم على جبيني و أنا الذي كنت غريبا عن عالم النساء .. العين أوّل سُلّم امتطيته نحو الكتابة و إحاكة القصيدة المشحونة بمشاعر فتية لم أعرف وقتذاك كنهها و لا تفاصيلها .. كانت أول تصميم لأنثى أضعه .. بعد أن كانت تصميماتي مجرّد خربشات على أوراق شجر برّي جاف .. يفتقد لمداعبة عطر موسمي ساحر .. مجرّد نزلات برد طائفية .. و حشرجات صوت رياح على إيقاع هفوة ربيعية تصادمت و شجن خريفي عند نقطة التقاء عاشقين .
*****
أحداث وطني العربي تقطع تسلسل مساري الشعري و تعيق خطوة ترتيب حلقات العقد الممزّق .. رغم أنّ بعض الحلقات مفقودة .. مبعثرة في مكان ما من ذاكرتي المثخنة بالجراح .. الظلام محيط و رحلة الثورات لا زالت مستمرة، هذه المرة بفتيل مزدوج .. الوضع في ليبيا لا زال متدهورا .. و سوريا تتجهز لاستقبال العتاد الثوري .. الموت بوجه خريفي و بسيف ذو بريق شرقي مزدوج، يقلع يوما بعد يوم أوراق أشجار عربية ... و رصيد الشباب العربي في تنازل مستمر ... لوحات متفحمة و أخرى بألوان قرمزية متحجرة تحاصر جدران المتحف العربي و تصادر اللّوحات العالمية المقتبسة النادرة .. لا شيء يضاهي براعة التصوير الحي و ضربات خنجر تاريخي على قطعة خشب تلملم شظايا الألوان الحرة المتناثرة .. تلك هي لمسات غروب مبكّر ترك حمرته إرثا تتقاسمه أجيال الثورات و اختفى .. الموت يعزف ألحانه الصمّاء في العراء .. حيث لا وجود لكاتم التنهيدات و لا حتى قطعة قماش تلملم بين خيوطها المتهرّئة ابتسامة شاحبة خلفّتها قذيفة مباغتة .. تلك الرسائل المشفّرة التي كانت تتعقّب الشفق أضاعت حروفها .. في كل يوم تصبح مهمة لملمة الحروف المبعثرة صعبة لحدود المستحيل .. لذلك كان الموت سيّدا لا يُقهر و كأنّه يمارس هواياته في ظل الغموض الكلّي الذي يحيط بلافتة تائهة .. لا تنتمي لغير المجهول .. انتهى الحوار المسكون بلهفة الدماء .. انهار التمثال الذي كانت تحرّكه الخيوط تماما كالدمى المتحرّكة .. ليبيا تتخلّص من عقدة الانتساب الكاذب و تقوم بقدم مبتورة، عرجاء تزحف فوق أعشاب تلفت على وقع شجار موسمي بين فصلين الربيع و الخريف العربي ...
قرأت نصاً موغلاً في الفصاحة والبيان...ووقفت على بعض الجمل لعذوبتها وبيانها وفصاحتها وللقيم الجمالية فيها...
-جلست أفكر واسترجع من الذكريات ما عجز شال تلك المرأة عن محوها...
-ذات مساء أمسية شعرية حضرتها لوحدي أن الشاعر!
-تشنجات الحرف الناري زرعت حواف الذكرى.
-ويكون الصيف فلا أجد غير بقايا أزهار داستها أقدام شمس حارقة...
حديث وصراع مع النفس أستولى الحيز الأكبر في هذا النص الجميل...
أجمل تحية وتقدير.
...........
سيدي الكريم .. أرحب بك مجددا في واحتك ..
أكثر ما توقفت عنده في أحداث هذا العمل هو النفس البشرية و صراعاتها الكثيرة ..
محاولة قراءة الآخر .. التعامل مع الوسط و ظروف الحياة مع مواكبة ما قد يحدث في العالم واقعيا .. و محاولة لإسقاطه على الحالة النفسية الخاصة للإنسان ..
مع ملاحظة أنّ هناك تشابه نلحظه دوما بين ما مرّ في الماضي و ما يمر و ما قد يمر لاحقا ..
و كأنّها سلسلة تتكرر بوجه مغطى فقط لكنّها تعبر الذاكرة بملامح سبق و قد شاهدناها ..
على كل الحال العمل ككل يرصد الارتباكات الداخلية أو حتى الحالات النفسية التي عاشها بطل العمل و طريقة تأثره بكل ظرف مرّ في حياته ..
أتمنى ان تكون فكرتي قد وصلتك ..
تأكد أنّي سعيدة كلّ السعادة بطريقة تحليلك و قراءتك و اكيد سأنتظر المزيد ..
كل التقدير و الاحترام ..
الغالية حياة
أستميحك عذرا
أريد أن أرتشف الشهد وأطرب وأنتشي
دعيني ألملم أجزائي وأنا أقرأ أجزاء روايتك
أنا مأخوذة بالدهشة أتابع بشغف كما تعلمين
محبتي
...........
سيدتي الكريمة ..
حقا تخجلينني في كل مرة بلطفك و بكلامك الجميل ..
أتمنى من أعماقي أن ألتقي بحضرتك في كلّ جزء ليس لأجل القراءة و المرور فقط إنّما لأجل النور الذي يحتل صفحتي ..
كل المودة و التقدير و جزيل العرفان و الشكر ..