هــل من عربة أخـرى
واقفـاً, قـاعداً, كنت ماذا.. لا أدري كيف كنت؟
ضفائر الأنابيب اللينة تخترق عليّ جدار وحشتي فاحمة الليل، ينهمر جوفها فوقي بلذائذ الطعام والشراب، أنا إمبراطور تلك المملكة الخالية السكان.
ربما رحل أهلها مع أول عربات القطار . أفتح عيني, أغمضها . لا فرق . الظـلام الجاثم فوقي بملل, جعلني لا أميز المحيط . فمي مقفل بسكوت من حديد . أنزلق, أتدحرج, لا أجد ردود أفعال لدحرجتي تنبئني بمحدودية المكان.
- أين أنا؟.
من أسقطني في هذا السكون ألقسري؟.
لماذا لا يمكن التعبير عن الذات بشيء من البكاء أو الشكوى؟.
ربما هذه الأشياء محكومة بوجود بشر؟.
امتلأت غيظاً, قرفاً, لتلك الراحة المفرطة . تحسست وجود أعضائي . انتفضت واقفاً . معلناً عن عدم حاجتي لها.
يوم ذاك كان امتداد قامتي سبباً لتهديم أسواري المصبوغة بالليل, وسبباً موجباً أيضا لتقديم استقالتي عن العرش.
أمي هي أول من تهلل وجهها بالفرح لهذه الاستقالة, فمولودها كان ذكرا، ولأنها منذ تسعة أشهر كانت مضمخة بالوهن، واشتاقت كثيراً أن تنزوي بحضن أبي ببطن ضامر.
اندلقت صوب عربة عجت بأشياء ما كان في بالي لها حساب.
أول ما أرعبني فيها هو الضوء . واجهته بصرختي باكيا.
ولأول مرة أرى أحد أعضائي يمارس وظيفته، انتابني شعور بخطأ قراري السابق بالتخلي عن أعضائي؛ فتعالى صراخي؛ لا خوفاً من شيء بل رغبة مني كي أسمع الآخرين إلغاء قرار خاطئ اتخذته.
- لا تقطعوا أعضائي فأنا بأمس الحاجة لها.
غير حالة في هذا الوجود المثقل بالتضاد والمتشح بإعلانات ثمن كل شيء, حتى البكاء, أججت فضولي بحامية مخيفة . هنا كرسي واحد حمل مرغما كدساً من الأبدان؛ وهنالك كدساً من الكراسي محجوزة خصيصاً بإمرة قدم واحد.
من سبقوني إلى هنا، منهم من رأيته يحمل معاولاً وأكياساً وبنادق؛ وسمعتهم دائماً يتوعدون الفقر والشيطان والحظ كألد أعداء . آخرون رأيتهم يرزمون قصاصات ورق ملونة يدخرونها كتمائم ضد مرض الغثيان الذي ينتاب أصحاب المعاول، لا يكنّون العداء إلا للإنفاق والكرم، عن بعد أو قرب أشمّ رائحة أصوات أوجاع لإقدام تعج بها الأزقة، مذاق الفقر، ترشحه بيوت الطين، يلعق لساني قهراً ، فيختبئ خاسئاً محتمياً بسياجه العظمي.
كارهاً تبذير الكلام في الضجيج.
أحجماني عن السؤال.. أنفي ولساني, في وقت آل فيه فضولي إلا أن يسأل أبواب الصاج.
لم يهاب ارتيادها الفقر حتى وان كانت مفتحة؟؟.. .
حملت جسدي فوق رغبة جامحة عصفت بسكون حيرتي, راحلاً صوب غير عربتي، علّني أجد مكاناً لا تدعوني فيه الحاجة للتسلح بفضولي أو بلادتي، حتى كل العربات . فلم أجد في أي منها ملاذا قد كفت فيه الساندين عن الصياح.
أجهدني الترحال دونما جدوى.
حينها أدركت أن لا مصلحة لي في مصاحبة البلادة لهذا الحد.
فأعلنت استقالتي عن مزاولة الأحلام، فتسلحت بكيس ومعول وبندقية وجمحت للّحـاق بمن سبقـوني للذود عن أرغفة الخبز........ .