كلما أحصى الزمن المتآكل من حياته سالت عقارب الوقت بين يديه وتفككت أيامه كتقويم ، لذلك انسحب من غرفة العائلة المتمركزة في قعر البيت كإجراء احترازي لترميم ما تبقى من رجولته بعد إن سلخ ظهيرته بنوم عميق ، في هذه القيلولة تزوج وطلق وفزّ مرعوبا ًعلى صوت زوجته المقرف ، تكوم الهذيان في باحة الدار ففر ليصطفق الباب الخارجي خلفه بقوة وهو يتجه إلى الشارع العام ، زوجته ظلّت تبصق إعلاما ً مضادا ًعلى شكل جمل غير مترابطة تطغي عليها السفاهة ، تنفذ من الشبابيك والثغرات ليلتقطها المارة بنهم ، وكذلك الأطفال المتجهون الى الشط الذين يبهرهم الحكي الخارج من البيوت بفضولية واستيعاب ، الزوجة تواصل بث منهاجا ًشفويا ً بينما ابنها البكر الوحيد الذي خلفاه كان يحاول إن يجد له موطيء قدم لاحتواء الموقف أمام أخت تصغره بسنتين متخذه جانب الحياد وهي تنحب في رقعة من ساحة العمليات، ألابن يسأل أمه بعد فترة هدوء نسبي :
- منذ ثلاثين سنة وأنت تتكلمين مع أبي بهذه الطريقة .
- لأنه منذ ثلاثين سنة عاطل .
- عاطل ؟ والمحل الذي أديره معه ؟
- المحل ..المحل.. !
- عجيب وماذا تريدين يا أمي؟
- ..........!!
ثلاثة عقود عجاف مرتْ وهي تدير حربا ًباردة من جانب واحد وقد أوغلتْ في الهذيان، الزوج يتهجى رجولته في محاولة فاشلة لرفع معنوياته لتخطي حاجز الصفر – كان المفروض بأبي أن ينجب أكثر من اثنين،أنا وأختي لا نكفي لرفد ساحة العائلة لموازنة القوى، كان بودي أن تتزوج أختي عواطف قبل أن تذبل هي وعواطفها كما ذبلت أمي -كذلك أنا كلما أستفحل الزواج في رأسي أسد ّ غريزتي بأحلام فاسدة وأذهب الى الحمام باسترخاء- قسمة – كان على أبوينا أن يفترقا بعدما أنجبانا بغفلة من الزمن ، أتذكر جيدا ًكيف كانت أمي تنصب المهد الخشبي المرصع بالخرز الازرق وتهزه فارغا ًبين فترة واخرى، بل أتذكر أيضا ً عندما أجهزت عليه لتحيله إلى قطع محطمة لترميه في الشط ، ألواح مختلفة الأطوال مهشمة تطفو فيداعبها الموج بعفوية مع انحدار الماء ..ياه .. أسئلة وذكريات تتجمع في رأسي كقاذورات ، أشعر في رأسي مقصلة ، كلما أغمض عيني أشعر لمعانها كوميض ، أصلب في رأسي أسئلة جادة وتافهة ، مثالية وسخيفة ، مستنقع من الكلمات والأسئلة راكدة في رأسي ، أشعر بدنو المقصلة وانزلاقها إلى الأسفل ، بالضبط تحت شحمة الأذن بإصبعين أو أكثر بقليل ، تحاول الانزلاق إلى رقبتي كلما توغلت في محاكاة نفسي – انتبه الولد إلى نفسه بعد هذه الصفنة ، نسي حرارة دكّة الباب الإسمنتية حتى شعر أنها نفذت إلى عجيزته ، نهض من مكانه ، تلمس نفسه ، كان ثوبه ملتصقا ًبقوة تماسك العرق مع جسمه ، أزعجته بقعة البلل الواسعة من الخلف إذ وقفت حائلا ًبين نية الخروج من البيت أو الرجوع إليه ، استذكر وجه عمه قبل ثلاث سنوات ، كانت تجاعيد وجهه أشبه بقاع نهر جاف ، شقوق وأخاديد ونتوءات متعرجة ورؤوس شعر لحيته تشبه الملح الذي يتشبث على بعض الجدران ويشكل طبقة خفيفة جرّاء الرطوبة ، بعد قطيعة عقدين من الزمن يجيء عمي وأنا متورط بوحدانيتي ، أكيد عندما قاطعنا قبل هذه الهوة من العمر لم يكن وجهه هكذا ، أوجز أن أمي لا تستوعب موت الفحولة وعليّ احتواء الموضوع ، تلمس ثوبه مرة أخرى من الخلف قبل أن يغادر دكة الباب وجده جافا ًتماما ًتحيطه من المنتصف دائرة متعرجة كأنها مرسومة بالطباشير ....
منذ ثلاثين سنة وأنت تتكلمين مع أبي بهذه الطريقة .
- لأنه منذ ثلاثين سنة عاطل .
- عاطل ؟ والمحل الذي أديره معه ؟
- المحل ..المحل.. !
- عجيب وماذا تريدين يا أمي؟
- ..........!!
هنا بيت القصيد
مبدعنا الكبير سعدون البيضاني
أنت رائع كما عودتنا لك أسلوبك المميز الآسر
سلمت يداك
تقديري وودي
( يثبت )
ثلاثة عقود عجاف مرتْ وهي تدير حربا ًباردة من جانب واحد وقد أوغلتْ في الهذيان، الزوج يتهجى رجولته في محاولة فاشلة لرفع معنوياته لتخطي حاجز الصفر
ذكرتني سيدي بمقولة للشيخ محمد الشعراوي رحمه الله :
أن العداء أو الحرب من قـِبل شخص واحد لا يعد عداء أو حرب لأن الطرف الآخر بارداً ولا يبادل الطرف الأول نفس رد الفعل لتحدث حرباً .. إنما لو صار الطرفين في عداء وخناق متلازمين على طول الخط .. الأول يشتم ويسب و الىخر يناطحه الأمر لصارت الحرب أفجع و أوسع .. "
هنا كنت ممسكاً بمنطقية الحدث ولم تنتح بعيداً عنه .. فالأب يريد حياة مستمرة و لا يريد الحرب .. رغم زواجه من سيدة شرسة ـ رحم الله أمهاتنا وأمهات المسلمين و العرب ـ
صفقت لك أيها الطيب و أحببتك من هيبة وجهك الوضاء .. محبتي لك ولأسلوبك الذي علمني و أمتعني ..
استاذنا وشاعرنا الكبير عبد الرسول معله
محبتي
ما أسعدني ان يمر علي مبدع بحجمكم
والله أخجل حيث لا استطيع ان ارد بما يليق ومقامكم الكبير
منكم نتعلم ..
لك مني حب واعتزاز وتقدير