سرّ الورقة الصفراء
أخرج يده الصغيرة بعد أن دسّ ورقة صفراء اللون بين كتبه ذكرتني بالمراسيم الصادرة من دواوين المحاكم والقضاء، وحمل كتاب اللغة الفرنسية وجلس بالقرب مني قائلاً : ـ هذه المادة الأخيرة في الامتحانات النهائية للعام الدراسي.
تعود منذ صغره أن يستذكر هذه المادة السمجة معي في كل سنة ومع نهاية كل فصل دراسي .
نظرت إلى عينيه المليئتين بالدموع ، لم اعرف أهي دموع الفرح على نهاية العام الدراسي؟ أم دموع تخبئ خلفها ما تخبئه.
لم أبادره بأية كلمة حرصاً على مواصلة الدرس وإتمام المقرر والمطلوب فقط للامتحان.
كنت أُعرفُه بسرعة البديهة في الإلمام بالملحوظة وبدقة , ولكن هذا اليوم قد يخذلني توقعي لأنه شارد الذهن مشتت الأفكار مرتبك ، فقلت في نفسي لا بأس عليه ربما لأن هذه المادة ليست أساسية في المنهاج الدراسي لهذه المدرسة .
صبرت عليه حتى ينتهي الدرس علني أعرف سره المكنون في صدره وسرّ هذه الورقة الصفراء التي خبأها داخل كتبه .
ابن الرابعة عشر ربيعاً ـ لم تكتمل بعد ...
بعمر الورود يحمل هماً أقلقه مما جعله يهمهم بكلمات لم أسمعها جيداً ترافقت من زفرة طويلة وكانت " أف " حرفان نطقهما ربما تريحان قلبه وتخففان توتره .
سألته لأخرجه من هذه عبارة" أف " غداً ستنتهي الامتحانات فإلى أية جهة يا طارق تشد رحال السفر؟
أخرج كلمة ( آه ) وصمت .
يا إلهي إذا كانت الـ "أف " لأحرف كبيرة حرمها الله لمن يعقّ والديه .. فماذا نقول عن الآهات ..
فالـ "أف" كلمة تَضجر بين الإنسان العاقل الواعي ونفسه ، وأن يرددها طفل لها دلالاتها الكبيرة .
لم يترك طارق تفكيري يسرح بعيداً فقد أسرع إلى مكتبه الصغير وأخرج الورقة المعهودة ووضعها بيدي قائلاً :ـ
انظري خالتي واقرئي وقرري معي أين أكون ؟
عنوان بالخط العريض وبالأحمر القاني كلون الدم المتصاعــد من وجه طارق
قرار من محكمة النقض العليا
يفيد بطلاق الزوجين
قرار آخر من محكمة الطعن لا رجعة فيه يفيد : ـ
أنَّ طارق الذي خرج من طور حضانة النساء ببلوغه سن الثالث عشرة سنة ونصف تقريباً أن يكون مع أبيه في البلد الذي يقيم فيه
نقطة
رفعت الأقلام
وأقفلت الأقواس
نظرت إلية لأرى الدهشة والاستغراب تعلو وجهه ، وكأنه يريد الجواب مني لا طرح الأسئلة عليه .
وأنت مع من تريد البقاء ؟
بصوت هادئ ابتعد قليلا عن توتره قال : ـ
أنا لا زلت طفلا تتقاذفه الأقدار، لا أقوى على السباحة بعكس التيار.. أراني يا خالة أسبح في دوامة .. أين العقلاء .. أين الجد ودور الجدة .. أريد أن يكون لي أب وأم مثل باقي الأطفال .
أريد والدي في هذا العمر لأني بحاجة إليه لأتعلم منه كيف أكون رجلاً يتحمل المسؤولية من كافة جوانبها..
أريد أن يعلمني معنى الصمود في وجه المحن والمصاعب والظروف القاسية التي يمر الأطفال فيها بوقتنا الحاضر ..
أريد أن يدربني ليشتدَّ عودي.. وأعتمد على نفسي ..
أريد أن يعلمني كيف أكون رجلا في المستقبل ..
أريده ... أريده
ولكن بالمقابل أريد أمي
من حملتني وأرضعتني وربتني وسهرت بجنبي الليالي ..
هي عمري وأملي وحياتي ..
كيف أتركها وأبعد عنها .. أليست هي بحاجة لي عندما أصبح رجلاً .
آه.. ثم آه.. من هذا القاضي الذي أصدر الحكم ؟
لم أعرفه لأسأله كل هذه الأسئلة
كلماته جعلتني أرتبك وأقف حائرة أمامه ، مردده في نفسي ما أقساها من قلوب تلك التي توصل مثل هؤلاء الأطفال إلى مثل هذا النوع من تحديات الحياة .
كيف بدأت بعض الأسر تتفكك من العادات والتقاليد باسم الحرية .. أهي البحبوحة في مجتمعات الرفاهية أم التحرر والتمسك والتصلب كل برأيه ؟
لقد أصبحت حرية الآباء على حساب مصائر الأبناء ، مشاعر خالية من أبسط القيم ألإنسانية ، مما دفعني للقول بان الحرية الشخصية ليست سوى ثوب فضفاض وضيق إلى حد تمزيق الجسد المحتشم من القيم الاجتماعية والإنسانية للأسرة .
ماذا نرى في هذه العيون البريئة الحالمة بالغد المشرق
ماذا نرى في تلك الوجوه الدالفة إلى المدارس كل صباح
ماذا نرى في تلك العيون المودعة .. والمستقبلة .. المتهللة المستبشرة بالعودة كل مساء .. تنتظر الحصاد والفلاح والنجاح .
حيرني وحرت معه .. ودعته على أمل اللقاء به بعد صدور النتائج لعل القلوب تصفى
ويتدخل العقلاء والحكماء .
كان الله بعونك يا طارق
/
/
هيام