كل شيء نراه له شكله وما يبدو عليه , مثلما لكل مركب شراع , له ألوانه, وحلمه واتجاهه وما يحمله من متاع , لا خوف من الصعود إليه ,أو تتبع خطاه , ولا خوف أيضا من التقرب منه , وتفحص ما يملكه من قدرة للخروج من هذا المأزق الخانق , حيث لا وجود للدهشة عندما يصبح الطقس غائم , ولا وجود أيضا للطلاسم , وما يعكر الماء إذا أعلن الصباح وصدحت البلابل . أشياء عدة تجعلنا حيث نكون وتجمعنا معنا بنفس الوقت , لا وقت لدينا نضيعه في تفاهات ليس لها طائل ,وليس فيها ما يروي ظمأ الألفة , صقيع المودة لا يحتاج إلا دفء يذوبه , ومزمار يتلو أناشيد الفرح , عندها سينزل المطر , ذلك ما نوّد وما يجعل الطير يمرح , لقد تخلفنا مسافات طويلة عن منبع النهر في معظم الفصول , رواسبه طمرت مساحات شاسعة من حقول ممتدة على طول طريقنا الوعر , زادت من أوجاع المفاصل , عكرت الافتنان برنين النغم للعاشق , كنت أشدو, ولكن, كسنبلة ارتجف من شدة الهلع عند عودتي , ريح شديدة العواصف تهز أحلامي هزّا , تساقط فيها الأمل والمتعة, كما تتساقط أوراق الشجرة عندما يزفر الفأس بيد الحطاب , تمالكت نفسي أول الأمر, خطواتي كلها متعثرة ,أو بالأحرى متثاقلة , لا أدري , ربما لا تقوى على حمل جسدي النحيل هذا , توقفت مرات وأنا انظر بدهشة ولا اصدق ما أرى ,أدمدم بكلمات مبهمة , ربما أخطأت في العودة , في أمور كنت اجهلها ولم احسب لها , متناسيا أساليب العاهرة عندما تهوى وما فعلت مرات ومرات , لكننا للأسف لم نتعظ لما أصاب الجميع منها وما أصابنا قبل سنين عدة , شعرت إني كأبله فقد رشده , لا يمكن للمرء أن يصمت وهو يرى ما لا يطيقه , ولا يمكن أن يعيش كما تعيش البهائم . توالت بمخيلتي رؤى وأشياء مفزعة لا طاقة على تحملها جعلتني ازفر من الألم , من الوجع الذي مزق كبدي ,ما كان يختبئ بظلاله ويسكن جوفي ,إلى متى نبقى هكذا نتلوى ؟ إلى متى نبقى لا نكف عن الثرثرة ؟ الوعيد الأجوف أنهكنا وأنهك كل قوانا , وعيد وتهديد لا طائل له ,ليس له ما يبرره , إلى متى يبقى هؤلاء الذين يحيطون حولنا لا يدركون ما نحب ونعشق ؟ لنا الحق أن نعيش كما يجب , ألا يكفي هذا الخصام الأزلي الممتد منذ نشوء الكون حتى أيامنا هذه من اجل الصلاح والتقوى ؟ هل حقا من ينادون بالتقوى ,هم ينادون بالتقوى ؟ أم هي مظلة يحتمون تحت ظلالها لا أكثر , لا يوجد في قواميسهم ما يدعوا إلى ذلك , لم نلمسه في كل الأزمنة , إني أرى القبح قد طفح أعلى من السطح وأصبح يلامس إقدامنا , القبح لطخ ثيابنا وجعل رائحتها كريهة ,ونحن على امتدادها متخبطون فيها بلا جدوى , جعل الأشجار عارية من البهجة , منبثق منها ما يزكم الأنف ويسبب الصداع . يطربها فقط نهيق الحمير, نهيقها الذي مزق السكينة , إنهم يفعلون ما يحلو لهم باسم التقوى حتى ملئوا الحقل ضجيج مفتعل ولم يكتفوا .
ترنحت خطواتي كأنني ثمل , المشاهد والأسئلة مرايا صاعقة تنطق ما حملته العاصفة , ما فعله هذا الجنون اللامجدي الذي يرثى له حقا ,خراب لم يكن معلن , تلك هي الحقيقة , ولم يكن ما يحلم به الإنسان وما يداوي جرحه, انبثق من الأوجاع والألم , جوف المرء مغمورا به حين لا يجد ملاذا آخر,سببه الحنق والغضب , هكذا هو نار مخبئة تحت ارض طمرتها الرمال والأوحال لها أسماء شتى , يخطأ التقدير في إطفائها من لا يرى ما يراه غيره , تحرق فصوله ,تجعل كل أيامه رماد لذلك لم يعد بمقدرة المرء أن يقشع العاهة ,فقط ما يستطيع ان يوهم نفسه ,لا يستطيع أن يقشع هذا الوحل كله . كيف للنهر أن يجرف الوحل بهذا الإيقاع وقد غمر الواحة ,وأطربت أغانيه من ظل الطريق ووجد ضالته فيها , في نفوس مريضة أصلا بالوباء , لا جدوى من الثرثرة, لا جدوى من السير في حقل يملئه الألغام , هي موجودة ومتشظية هنا, وفي كل مكان .
كل شيء إذن له رائحة حين تقترب منه ,وتميزه حين تلامسه , وما أشدّه إذ كنت تعيش في ظل له في هذا الزمن الموبوء حتى التخمة فيه بخطوات مترنحة وأحيانا متناغمة , ويوجد من يتطيب بها . آه كم هو موجع الصوت الذي يدوي في أعماقنا, وكم امتد صداه .
وددت لو لم آتي كي لا أزيد من جراحي ولا أجد صدى لآهات تعكر الأيام وتفزعني كما كنت فيما مضى. أنا لا أقوى على رؤية الألم , ولا يوجد من يعشق الألم , لا أريد أن أرى ما كنت اعرفه أو أكون على مقربة خطوات منه , لكني وصلت توا ولا بد من البقاء لبعض الوقت , ولا بد أن اقضي أيام كنت احلم فيها بعد فراق طال ورحيل مرغما عليه خوفا من الذئب الذي كان يطارد فرائسه بمتعة لا متناهية , وخوفا أن اقضي بقية العمر في زنزانة مقفلة إلى الأبد , أو الموت في مقبرة لا يعلم بها احد , كما حصل وقد ظهرت . كم تمنيت أن يطول عمري لأرى ما سيحصل مثلما تمنيت العودة بكل جوانحي , أو على الأقل زيارة اقضي أياما فيها بصحبة من أودّهم وأحبّهم تشفي بعضا من غليلي ونارا تتلظى رغم كل ما حصل ويحصل بشهية مفرطة كشهية الجائع للتمر . فما أكثر الأحلام التي تراود المرء في غربته وما أشدّها عندما تطول ولا تجد من يواسيك فيهاغير الهمس ,أو صحبة قلقة وعابرة من بعض الأصدقاء , وضحكات مجنونة ,وكؤوس مبعثرة لا تشفي ما يثقل ويحرق جفونك إلا لحظات معدودة جدا وتبعدك عن الجرح النازف مودة ثم تعود متشظية مرة أخرى . لم يشغل بالي شيئا سوى السفر عندما أصبح ممكنا حين هوى الصنم, وأصبح الخوف خبر كان مستتر ورائي , لم يعد يشكل هاجسا للطيور التي تحلم دوما أن تعود إلى أعشاشها مهما طالت الأيام وطال السفر , لا غيره يشعرني بالدفء والدفء كله , وها أنا أرى وأحصي ما فزعت لرؤيته وان كان جزءا من فيض غمر زبده شواطئ أتعبها السهد والحمى ولم تزل .
واستسلمت خطواتي للإيقاع تتقدم بوجل نحو ما يخفق القلب لذكره , احمل حقيبتي مجتازا الشارع الرئيس الذي لا توجد على جوانبه أرصفة , أو نبتة تزينه , أو سلة للأوساخ ,أو ما يدل إن هنا أيدي عاملة تعمل على تنظيف المكان . ترائي لي إني امشي في مستودع كبير للنفايات , المدينة التي اعشقها وأحبها حتى الموت ولن تفارق مخيلتي , ناسها, أزقتها وشوارعها منذ الوهلة الأولى بدت لي إنها أشبه بمقبرة , لا شيء يوحي إن حياة توجد فيها , أحدق منذهلا للخراب الذي حصل, لا يوجد من كتب عنه ,أو نقل صورة حقيقية له إلا خلف كواليس معتمة , وبهمس يكاد لا يسمع هنا وهناك , وما يسمح به فقط ,كأن الجميع يباركه , وكان حقا كذلك ,ولا يوجد أيضا من يطرق أبوابه إلا بموافقة وان ادعى البعض غير ذلك فقد كان البلد كله أشبه بزنزانة مغلقة لا يسمح لأحد الدخول والخروج منه إلا بموافقة صارمة من جهات عليا تسمح بإصدار وثيقة للسفر إذا لم يكن اسمه مدرج طبعا ضمن قوائم الممنوعين منه , أو يهرب إلى إحدى دول الجوار , وفي كلتا الحالتين يجد نفسه غير مرحب به ولم يجد آذنا صاغية تسمع شكواه, ويبدو للآخرين , الأصدقاء والأخوة الأعداء ,مشكوكا بأمره , أو انه في مهمة بعث من اجلها .
لم يكن هذا الإنسان والخراب الذي لحق بنا يعني شيئا للجميع , فهو حقلا أصبح لتجربة ينتظر نتائجها . اندهشت جدا للفوضى التي تعم المكان وكل ما يحيط حولها , الفوضى أحيانا تصيب المرء بالقرف والغثيان عندما يفاجئ بها, كيف يمكن أن يحصل هذا ؟ كيف يمكن لمدينة أن تكون هكذا قذرة ؟ وكيف للبشر فيها أن يعيشوا ويحلموا ويقضون أياما كما يعيش الآخرين في مدن أخرى ؟ لم تكن هكذا عندما تركتها , كانت جميلة وهادئة كامرأة ,......
ولم يوجد ما يعكر صفوها سوى الأحمق وأحلامه البائسة وطموحاته المستحيلة وروائحه العفنة وما يحيطون به من أشباه رجال مدججين بالسلاح يأتمرون بأمره يحركهم كالدمى متى وأنى يشاء بإشارة من يده , يرعبهم مرآه , يرتجفون هلعا إذا ذكر أحدا باسمه بصوت عال , موبوءين بالعاهات ,لوطيين ,قرويين وأميين , حمقى حد اللعنة , طاعتهم عمياء , استحقوا السخرية من الجميع ولم يأبه لها احد منهم , يغتنمون الفرص لفعل كل ما هو قبيح ومقزز , متهيئون أبدا لطاعة سيدهم بامتنان والانقضاض على من لا يودّهم ككلاب مسعورة , ومن يروه خطر على تواجدهم المقيت وان لم يكن كذلك , فقط لإشباع غرائزهم الحيوانية , أو من يشير إليهم بالاتهام لما فعلوه واقترفوه , وما استباحوه لأنفسهم كما هو الأحمق , ولم يكترثوا لشيء إلا لشهواتهم الدنيئة , ولم يعنيهم من الأمر شيئا.
المنازل الممتدة على طول الطريق مكتظة بالآهات أحيانا ومتفرقة أحيانا كأنها لا تريد أحدا أن يسمع الأنين والوجع الذي يغمرها , تخلو من الأشجار الباسقة ,مبنية بترتيب عشوائي وغير منتظم تبدو للمسافر والغريب كما لو إنها معتقل تحتشد فيها العوائل بلا ماء صالح للشرب ولا كهرباء , تفتقر لأبسط حقوق السكن والعيش بما تستحقه , ولا تصلح ضمن القواعد للسكن حتى للحيوان في دول أخرى , كأنهم موجودين فيها ينتظرون مصيرهم المحتوم , ولا اعتقد إنهم راضين عنها , يعيشون فيها رغما عنهم , لا يوجد من يستطيع أن يمد لهم يد العون , ولم يستطع أحدا منهم أن يصرخ خوفا من الاعتقال ومن الموت بغتة وفي حادث مأساوي , أو من المقصلة التي طالت العديد منهم بلا سبب يذكر أو باتهام باطل لا أساس له من الحقيقة بشيء , إنهم ينتظرون فقط نهايتهم البائسة , ثيابهم رثة , فقدت بريقها وألوانها فقد استعملت سنين عدة ,أو لا يوجد بديلا لها , ذلك ما يبدو , وربما هي أصلا مستعملة ينتقونها من الباعة المتجولين المنتشرين في كل الأمكنة الذين يفترشون بضائعهم على الأرصفة وعلى عربات صنعت من الخشب لتجارة نشطت ولقيت رواجا وسوقا خصبة مفتوحة على مصراعيه . كان الجوع والإهمال فعل فعله القبيح حيث الصورة جليّة ولا تحتاج إلى أدلة أو براهين منظورة وواضحة , ولا تحتاج أيضا إلى عين ثاقبة لتفحصها والغور في أعماقها وخصوصا في الأحياء البعيدة عن المدينة , آه كم هي مؤلمة حقا , إنها تصيب من يراها ويتأملها بالحنق والكآبة , هي صورة للمأساة الحقيقية التي عاشها الإنسان في العصر الحديث بأبشع صورة لها وسط صمت مطبق وعهر قل نظيره في كل الأزمنة وفي كل الأعراف والمواثيق , يقابله الآخرين بسخرية واستهزاء , وكأن شيئا لم يحصل , مأساة كالأمواج المتلاطمة من الآهات تسمع عن بعد , لكن أحدا لم يسمعها , تخرج من الأبواب المهملة والشبابيك الصدئة المغطاة بقطع مرقعة من قماش بال . كيف يقضي هؤلاء الناس أيامهم ؟ أليس لهم حق كما هو للأخر ؟ كيف يقضون أياما في حرارة الصيف الملتهبة وأياما في ليالي الشتاء الباردة حين يكون الليل ساكنا وكئيبا وفي المطر بلا مدفأة أو نور يضيء بعض من العتمة إلا من زجاجة وضع فيها الزيت وتركن في زاوية؟! . كيف لا تعلم شعوب العالم إن مجزرة وإبادة جماعية لشعب اعزل تحصل ؟ هو لم يفعل شيء وليس له رأي بما يجري وما فعل الأحمق ,ورغم ذلك يعاقب , يعاقب لمعاقبة نظامه ويا ليت نظامه عوقب , هو فقط من عوقب ,يا للعهر , هو لم يختار نظامه , لم يكن له رأي فيه كما هي الشعوب العربية الأخرى لم تختار نظامها الذي تعشقه , كلهم متسلطون وكلهم فرضوا أنفسهم بالقوة وبالإكراه بمساعدة الآخرين الذين باركوا العقاب وصفقوا له , كما هو الصنم موجودا برضاهم كلهم ,آه متى سيرحلون ويتهاوون كما هو الصنم . لا احد يطيقهم ,لا احد يعلم كيف هو الألم هنا , لا احد يشعر به , لا أحدا يكترث , إن الألم لا يشعر به المرء ولا يوجع إلا من أصابه الوجع , كله هراء ذلك الذي كنا نسمع به , كلها أكاذيب لها غايات غير معلنة ومبطنة , وما أكثرها قذارة حين تجد من هو متباكي على ما يجري أمام الملأ . هل تجدي هذه الثرثرة نفعا ؟ ربما نعم .
وشعرت بأسى بالغ يغمرني من الرأس حتى أخمص القدم حين لامست يدا يدي وصوت طفل اقشعر له بدني يطلب بتوسل المساعدة, آه كان طفلا متسولا بملابس رثة وهو أول من التقي , صعقت ولم أتمالك نفسي وأعطيته ما وقعت عليه يدي دون أن انبس بكلمة وقد هرول مسرعا ليختبئ خلف مكان آمن ليعد بفضول ما لا يصدق انه قد حصل عليه من غنيمة , ربما كان يرصدني وذلك شأن المتسولين عموما , لكني لم استطع المقاومة , رغم إني لا أحبذها ولا أجد لها صدى في داخلي . وتابعت سيري وسط قهقهات متعالية من مقهى كئيب يخلو من المقاعد لرجال يحتسون الشاي وقوفا ونظرات أخرى قلقة تتفحص القادم الغريب الذي وصل توا بملابس جميلة وحقيبة جلدية أنيقة إلى سيارة أجرة تنتظرني , سائقها يضغط بشدة على المنبه ليعلن لي انه ينتظر ويدا أخرى ملوحا بها , خرجت بعدها امرأة منها ,لم تستطع كبت انفعالها وعواطفها مسرعة تعدو باتجاهي لتحضنني بقوة , تارة تضحك وتارة تبكي ثم تمسح دموعها المتساقطة بغزارة بأكمام عباءتها , يا لسخرية القدر , عرفتها إنها أختي الكبيرة ولم اعرف إنها الصغرى التي تركتها تلعب عندما رحلت باتجاه الشمس
مغمورا بالأسى والفرح , معا صعدنا إلى سيارة الأجرة وجلست مع أختي في المقعد الخلفي , السائق هنئني بسلامة العودة يبتسم ويدمدم بكلمات لم اسمعها , واني لم أكن مصغيا لها , فزعا انظر ما أصاب المدينة على طول الطريق المؤدي إلى محلتي القديمة (الإسكان ) حيث لم يزل بيتنا كما هو وكما اعرف , ربما كنت من القلائل الذين توافدوا إلى المدينة , الأبنية جميعها لحقها الدمار, آثارها لم تزل واضحة جدا , كما لحقها الخراب أيضا على أيدي عبثت فيها ما شاء لها العبث وخاصة الأبنية والمؤسسات التابعة للدولة والحكومية , محترقة بشكل كامل مسلوبة محتوياتها حتى المصابيح ومفاتيح الكهرباء وبعضه محطم بكامله بفؤوس لم تزل حتى اللحظة لانتزاع الطابوق منه ونقله إلى مكان آخر , أو بيعه بعد تنظيفه بثمن بخس , بعض الجدران ملطخة بالدخان من الحرائق التي نشبت فيها , أسلاك الكهرباء مقطعة وسط الشارع وعلى جانبيه وضعت الأعمدة أيضا مما جعل مرور المركبات صعبا للغاية , ربما وضعت عمدا, وربما لم تجد من يزيحها عن الطريق , وربما لها غاية تخدم من وضعها ويريدها هكذا , فوضى عارمة تعم المكان برمته تشعر المرء بالأسى والقرف , لكنها لم تكن هكذا في نفوس الكثير , بل وجدت طربا له في نفوس أخرى وله ما يبرره نتيجة لما قد حصل , ولم يكن للأسف في نظرهم خراب , ثمة أمر خفيا للفرح لا يعرفه إلا من نزعت منه الأصفاد ولم يصدق إنها نزعت , أو يوجد آخر حطمها ,فلم يبال لما يجري لذلك هو فرحا يرقص , فرحا يغمره لأنه فجأة أصبح حرا وكما يحلم , لا يوجد ما يعكر صفائه بعد الآن , وله أن يفرح على طريقته ويعبر عنها بما يشاء وفي كل مكان حتى إن وجدت الرفض عند الآخر وما يشير إليه بأنه أبله , لقد رحل الخوف وولى عهد طمر حتى العنق بالوحل , كم يشعر المرء بالسعادة والزهو حين بغتة يحصل . الشارع وعلى طول امتداده مزدحما بتجمعات هنا وهناك بعضهم بعمر الزهور وبعضهم تجاوز الثلاثين عاما وأكثر , يحملون هراوات وسكاكين وأسلحة آلية ربما غنموها من المعسكرات القريبة منهم التي كان يجري التدريب فيها دائما وبالإكراه على تعلم فنون القتال تحسبا لنظام كان الخوف هاجسا قويا يهز أركانه مما سيحصل , يلوحون فيها بفرح غامر للمركبات التي تكون قريبة منهم . مندهشا جدا مما رأيت وكأنني في حلم وعالم آخر , لوحت لبعض منهم بيدي وأحيانا بابتسامة قابلني الكثير منهم بمثلها وأكثر , وكم شعرت بالفرح لأني وجدته تسلل إلى روحي وغمرني كما يغمر الماء حقول القمح , في عيون الجميع وحركاتهم الصادقة والعفوية وفي كل شيء تنطق به أقدامهم فاستسلمت له كله ولأمر مرهونا به , رغم الفزع والدوار الذي يلازمني كظلي حين تقع عيني سلاح مهما كان نوعه ومهما تعدد الغرض منه , لا ادري فانا امقته جدا منذ كنت صغيرا عندما قتل احدهم امرأة في إحدى أيام الصيف الساخنة في محلتنا قيل إنها كانت تمارس الدعارة غسلا للعار كما يسمى في العرف العشائري ,ولم تكن كذلك , بل إنها أحبت شخصا وتزوجته رغما عن الجميع , لم يكن كذلك مستساغ طعمه عند الأهل, عموما هم فعلوا ما يجب أن يفعلوه , هكذا أصبحت لا أطيقه ولا حتى النظر إليه , اشعر منه بالنفور والاشمئزاز معا , ماسكا المقعد الأمامي بقوة ,كأن شيئا أخاف أن يفلت مني , رغم الألم في أصابعي , اتركها برهة ثم تعود مرة أخرى إلى مكانها حيث لا ادري , أغمض عيني أحيانا رغم الرغبة الجامحة لمعرفة كل التفاصيل التي تجري والمشاهد اللامألوفة ثم افتحها لأجد السائق في مرآته الأمامية ينظر إلي ويبتسم ,لا يعرف ماذا يجري في عروقي حتى نبضات قلبي أصبحت متسرعة جدا كأنها تريد لقلبي أن يخرج من مكانه , لم أقوى على الرد بما يجب فقد تلعثم لساني تماما , لم أقوى على أي شيء آخر سوى الرد بابتسامة مثلها مع شعورا بالحرج . مندهشا جدا وقشعريرة تسري في جسدي كله طول الطريق الذي لا يبعد سوى دقائق معدودة حتى ترجلت من السيارة وأنا أتلفت وابتسم كي اخفي ما انتابني من فزع .
لم تكن محلتي بمنأى عما يحصل , ولم تكن بيوتها بأحسن حال من البيوت الأخرى فهي كما عرفتها رغم بعض التغيير فيها ,بيوتا متناسقة جدا بنيت على طراز هندسي معماري واحد رغم الاختلاف في المساحة بين قسميها , أبوابها المتشابهة , الأسطح المتلاصقة بعضها مع البعض الآخر , أزقتها المنتظمة والمعبدة , شارعها الرئيسي العريض حيث اسكن , نظيفة جدا ومميزة في خدماتها والتي كان يشرف على خدماتها كشكول وغازي( المنكرش) ولهم مودة في قلوب المحلة ,- تختلف بعض الشيء عن المحلات الأخرى في المدينة , السراي الأم والأصل والبداية والسيف والشرقية والثورة والشعلة وشارع بغداد والإدارة المحلية ,- لأنها بنيت كوحدة سكنية مجتمعة في عهد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم وفي عهده تم توزيعها على الموظفين والعسكريين سواء , لمعت كما هي المحلات الأخرى بسخطها وغضبها عما يجري في أروقة ودهاليز الحكم المستبد بأفعاله ,بشبابها الثائر والعاشق للثورة والتغيير ,
أناسها طيبين للغاية , يعيشون فيها بألفة كعائلة ,منسجمين فيما بينهم حين يمس خطبا أحدا ما , كرماء تجمعهم المودة , وهي صفة غالبة تطفو على السطح في كل مدن العراق قاطبة ولها خصوصية في منطقة الفرات الأوسط والمناطق الجنوبية لها من الأسباب عديدة ومتنوعة لا مجال لذكرها الآن ..
في هذه المحلة الهادئة والمتآلفة نشأت وترعرعت ومنها تعلمت الصدق والوفاء وما حلمت مع أخوة وأصدقاء في نفس الوقت , بعضهم أحياء حتى الآن , وبعضهم دفع دمائه ثمنا لهذه الأرض , منهم رحلوا خوفا من الموت على أيدي الجلاد كما أنا . أحزنني جدا ما وجدت , إهمالا متعمدا يفوق الوصف ما رأيت , لاشيء يبدو كما عهدت وما عشتُ وعرفته , مهملة جدا وخربة كأنها من عصور سحيقة تراكمت عليها رمال السنين وطمرتها , لكنها موجودة رغم الأسى ورغم كل شيء , المياه الآسنة وما تجمع من مياه الأمطار في ساحتها الكبيرة التي كنا نلعب فيها ونمرح بكرة من القماش أو القطن يملئها الذباب والبعوض إضافة إلى النفايات المتراكمة على جوانبها يملئ النفس تقززا وشعورا بالضجر , الأطفال وجدوا متعة فيها وهم يرمون بالحجارة وسطها ويضحكون بصوت عال ومتعة أكثر حين يتلوث احدهم بما يقع عليه من الوحل , الروائح الكريهة تملئ الأزقة والشارع من المياه الثقيلة التي طفحت من البيوت , لا يوجد فيها شارع نظيف ومعبد أبدا , لا شيء فيها يدعو للبهجة , كل شيء قرف , وحده اللقاء يجعلك تغض النظر , ويجعلك لا تشعر بها . لم يسبق لي إن شعرت بهذه السعادة والفرح , كم تمنيت أن تبقى طويلا , لم اعد أفكر بغير الألفة والفرح , هذه الوجوه رغم التعب تفيض حلاوة ومحبة , إنني اغترف الآن منها ما شئت لأطفئ النار المتقدة في جوفي العميق , وأضمد بها جروح لم تندمل ولا اصدق إنها ستندمل , لم يسبق لي إن شعرت بهذا الود كله منذ سنين طويلة , لم اعلم انه سيكون هكذا وبهذا الشكل , لساني عاجز عن وصف تلك الدهشة التي تغمرني , كم هو جميل ودافئ هذا العش , وكم يستحقون من فيه حياة أفضل , يستحقون ما يستحقه الآخرين , أليس كذلك ؟ رغم كل ما حدث ويحدث , ما يحيط بهم وجع فقط , إنني جئت لأغفو فيه واحتضنه وان لم أشأ قولها , أتمرغ فيه حتى وان تلطخ بالوحل , هو عشي ولا اعشق سواه ,الآن أنا في لبه فكيف لا امرح ,وكي أتمكن من التمتع بهذه الألفة لفترة أطول اكتفيت بالصمت والابتسامة فقط , كي اسمع فقط , ربما أكون بحاجة إلى كلمات قليلة أقولها فحسب , مكتفيا بالإشارة , ملوحا بيدي الراجفة حبا , بعضهم عرفته والآخر لم تسعفني الذاكرة إلا بالمساعدة ومن يهمس لي باسمه متجنبا الحرج ,ومن طلب مني التريث قليلا حسب رغبته مع قليلا جدا من التساؤل والملاحظة ,هكذا أمضيت ساعات طويلة من الوقت لم اشعر بها سوى لحظات عابرة مرت . كم أنا ظمئ حقا؟ , لم اشعر بالوقت ولا كم منه مضى , الظامئ لا يرتوي ظمأه هكذا . كنت مليئا بالفخر , لأني عدت وحققت بعضا من حلم , أن أرى الأحبة والأهل , لكني شعرت ببعض الخجل , لقد ظهرت كأني أبله متعثرة خطواته لا يعلم ما فعل الحطاب بالشجر , رغم إني كنت شديد المتابعة , صلبا , مواظبا على التواصل مع الأهل , اعرف ما لا يعرفه الآخرين قبل معرفتهم به , لكنه لم يكن بهذا البؤس وبهذا القدر , إنها صورة متجسدة الآن أمامي وليست خبر . من الأفضل لي أن لا أتفحص بدقة ما خبئ تحت الركام , ولا أتفحص من يوجد خلف الستائر . يجب أن أعيش اللحظة والأيام القادمة بكل تفاصيلها وليس التي رحلت .
كانت على مقربة مني أختي تجلس ,تتحدث وتصغي وتضحك , لم تتوقف عن إظهار مشاعر الفرح , حاول بعض الزائرين أن يبعدها عني بعض الوقت بأسئلة أخرى ومواقف ظريفة لكنها لم تأبه وزادت قهقهاتها مرح . كنا مغمورين معا من النشوة ومتعة الوصل , لم يعير أحدا اهتمامه للصخب في غرفة صغيرة لا تتسع لهذا العدد من النسوة وبعض الجيران , تفرق بعضهم على عجل ,وآخر متأهبا للنهوض مكتفيا بالترحيب واللقاء مرة أخرى , توقفت أختي عن المرح فجأة كأنها انتبهت لشيء ما , هيا تعال , قالت لي , يجب أن ترتاح قليلا وتستحم انك متعب من السفر , أشرت لها بنعم , بدا الهدوء يعم المكان , لمحت بعض الصور المعلقة على الحائط لأبي في عنفوان شبابه , سينتهي بنا الأمر أيضا معلقة صورنا فقط للذكرى , لا بد إن الساعة تجاوزت منتصف النهار كثيرا جدا , تجولت في أرجاء المنزل مستطلعا , مستعيدا بعضا من ذكريات فقدتها بمرور الزمن ,توهجت أمامي متقدة كأني تركتها بالأمس فقط ,رأيت بقايا من سرير خشبي كنت أنام عليه ونتشاجر فوقه مع إخوتي الذين اعدموا بصخب يوم لا يوجد في البيت أبي , كنا جميعا نخشاه ونرتعب عندما يغضب , كان أشبه ببركان يقذف بالحمم , لا يعرف من يكون أمامه , يحب السكون , لا يرضى لأحد أن يرفع صوته إذا حضر , متعبا دوما من عمل مضني في سيارة للأجرة قديمة جدا , لقد مضت تلك السنين وعشقناها رغم اننا لم نشعر فيها بلذة أو طعم , السأم يغلف كل فصولها ممتزجا بالآهات والضجر .
اقتربت من السرير المحطم كأني اقترب من ماض سحيق لأودعه , تولاني الضحك أنا نفسي لم اعرف السبب , رغم التعب , رغم الوجع الذي اكتنفني حين وطأت قدمي ارض المدينة , رغم كل ما رأيت وعرفت , ولم أحض بمن كنت أودهم من أصدقاء الطفولة , مستلقيا على أريكة وسط غرفة أخرى , غارقا في نوم عميق
استيقظت مبكرا جدا , آه ما أجمل الصباح هنا , صباحا كنت مفارق إياه , ما أجمل الشمس فيه , مبكرة تستيقظ هي , مبكرة تنهض كعادتها , كما أنا , قرصها الدائري اللاهب لاشيء يحجبه كما هو في مدن أخرى تحلم به , تفرح لمرآه , لا توجد غيوم هنا , لا يوجد ضباب , متغلغلا شيئا فشيئا في كبد السماء, متوهج ككرة متدحرجة ببطء وتبدو ثابتة , مكتوب عليها البقاء من اجل الجميع , من اجل الحياة , عما قريب سترتفع , سيبحث الآخرين عن ظل يحتمون فيه من وطأة الحر , مظلة لبائع , سياج لبناية مرتفعة ,مقهى يحتسون الشاي فيه وأحاديث متفرقة عما حصل وما تتناوله الأخبار أو يعودون مبكرين للبيوت , يجلسون على وسادة قرب الباب ,يتابعون ما يجري بفضول ,- من تزوج , من تعرض لحادث , من سرق بيته , من سقط قتيلا أو جريحا في قتال , من كان بالأمس ذميم الخلق , من كان معتوها كغيره مصابا بالعاهة , من كان لا يجرأ أحدا أن يقول له انه فقد الصواب , من خلع ثيابه يتسكع في المساجد ليل نهار, من أصبح مؤمنا بين ليلة وضحاها ,من تخطى العهر درجات , من هي المومس ومن يدخل بيتها في الخفاء , من لا يخجل ولم يعرف يوما معنى للحياء , من استعاروا فمه يردد شعارات العاهرة كأنه ببغاء , من حمل بيده السلاح , من آوى لبيته الكلاب , من تمرغ في الوحل حتى أذناه , وكم سعر الطماطة والحليب وكم ارتفع أكثر من المعقول سعر العرق , ومن هو المؤذن في الجامع , كم بقي من عائلة منشد وطارش, وكيف قتل خالد زيارة , وكيف اعتقل فريد ,وأين عثروا على جثث المحكومين بالإعدام ,ومن سعفه الحظ وهرب خوفا من الجلاد , وأحاديث لم تنتهي أبدا , أرشيفها العقول ولم تدون , بقدرة المرء أن يعرف ما يريد خلال أيام إذا كان يود معرفته , كل شيء وما لا يخطر على بال - لا يوجد مكان آخر يحتمون فيه أكثر ظلا من البيوت , يخلعون بعضا من ملابسهم , يصبحون أشبه بالعراة , ثم يأوون للفراش , هكذا هي الأيام تنقضي وتودع بعضها , لا يوجد فيها أكثر من هذا الهراء , تناهى إلى سمعي من بعض المارة أن معركة ستحدث , أجفلت , لا احد يبدو عليه الاكتراث , آخرين قريبين مني تجمعوا يحملون بنادق آلية بعدة أشكال , مزهوين بها وقاذفات أر بي جي مهيأة للانطلاق , ربما لا يجيدون استعمالها , فخورين بحملها , يتقاذفون بالشتائم , يتوعدون , ينتظرون أمرا بالانطلاق , آخرين ساروا مسرعين يحملون الهراوات باتجاه المدينة , المدينة لم تبعد كثير , يفصلها عن الجهة الأخرى جسر النصر , وما بينهما مسافة قصيرة جدا , يدمدمون بأصوات لم افهمها وإشارات منفعلة ومنفلتة معا تناهى لي صداها وعرفته فيما بعد , هكذا إذن سأشهد معركة تحصل , ولكن ضد من ؟!! لقد دخلت العاهرة المدينة وهرب السفلة ولم تبدي مقاومة وهو ما أذهل الجميع ومن اشتركوا فيها باعترافهم , رغم الحذر الذي أحاطه الأحمق حول نفسه وتهديده ووعيده,
ورغم الاستعداد والتهيؤ والتبجح بسحقها والادعاء الأجوف والجنون الذي صاحبها قبل وقوعها وما سخرَّ إليه من أموال وهدايا وامتيازات للذين يبلوا بلاءا حسنا ,آو ما يرضيه , لكنه لم يجد أذنا صاغية , لم يشترك فيها إلا من وجد نفسه خاسرا وليس له شيء يقوله , كان الألم كبير جرحه , وكان الفرح يغمر الجميع بإزاحة الصنم . كل شيء يبدو الآن هادئا , لا يوحي ان معركة ستحصل , ولم يبدو على وجه احدهم القلق , كأنهم خارجين لنزهة , ربما أنا محظوظ لا شاهد ذلك , وهل حقا سيحصل , لا تخف إنها تحصل منذ أيام عدة , لم أشأ أن أخبرك , قالت أختي , كانت تقف خلف الباب وتتابع ما يجري , تعال لتناول فطورك , لم تعد لي رغبة بذلك , إني أريد فقط مشاهدة ما يحصل
ما اشد غرابة بعض الناس , الأميين فقط , المأجورين الذين لهم دوافع شخصية ضيقة , عندما يتنفسون الحرية . المتعبين جدا , المنهكة قواهم , المعدمين, الصادقة شعورهم وأحاسيسهم , هم دائما الضحية , هم دائما يدفعون الثمن , يتزينون لكل حفلة , راقصين فيها , يجمعهم الطرب , ثم أخيرا يلقون في قارعة الطريق , نادمين على ما اقترفوه من ذنب , تساءلت مع نفسي هل هم حقيقة يريدون ذلك ؟ أم إنهم أدوات ودمى تحركهم أيادي خفية , أيادي لها الحق بالأمر ,مطيعين لها , ينفذون ما تطلب وما تشتهي بإشارة منها , أيادي توضع من تريد كالدمى في أي مكان تريده. وهل هي حقيقية تلك المطالب التي تجمعوا من اجلها وما ينشدون , أم إن الأمر يتطلب ذلك وهو إبراز للعضلات وللآخرين فيه مآرب أخرى , ربما لم يصدقوا ما حملت الحرية التي أتت بغتة . كثير منهم صبيان لا يعرفون ما يفعلوا , عاطلين عن العمل , أدعياء , سماسرة , مصابين بالعاهات مرتزقة سابقين , فدائيو الصنم الذي تهاوى والذين كانوا يحتمون بظله , مزيفون ومتنكرون لأبسط المفاهيم والقيم , يساق بهم كقطيع من الخراف نحو غاية معلومة ,ولا يعلموها , أسبابها تافهة جدا مصحوبة بالحماقات , يطالبون ما يطلب منهم ولا يطالبون وما هو حق لهم وحياة سلبت منهم وكأنها لم تكن مطلبا , متدافعين متخاصمين لإرضاء شهوة ونزوات غيرهم الذين يريدوا أن يثبتوا للآخرين أنهم أحق بما نعموا به , وإنهم سرقوا حقوقهم بغفلة من الزمن ,وإنهم يستطيعوا أن يفعلوا ما شاء لهم ,وكان كل شيء عبث , حقيقة الأمر كلها واضحة ,لا يوجد لأحد فضل بما حصل ويحصل ,كلهم سواء لا فارق بينهم .
هذه الخطوات المتعثرة اللامنتظمة والرتيبة في إيقاعها لا اعتقد إنها تطرب الجميع , يملئها الصخب والانفعال وغير مجدية في تطلعاتها , تفتقر إلى النغم , متشظية من الغضب , تفتقر للحنكة , تتلظى من الوجع الذي أدمى أقدامها على طول طريقها الوعر , بحاجة جدا إلى معالجة ورأي صائب لا يخلو من الحكمة , لا يمكن تركها بلا إشارة أو إيماءة , لا يمكن إهمالها أو التنصل ما يؤلم أيامها , ثمة أمر خفيا يدفعها للتسارع كدقات قلب مخفقة , كيف يمكن أن تصل إلى غاياتها , كيف تصبو إلى ما تحلم به , وما تسعى إليه بهذه النظرة المقززة للانفعال . كنت أرى وأصغي لا شأن لي بما يجري , يؤلمني فقط , أنا مسافر , مسافر يغمره العشق لعشه , لكنها لم تطربني منذ الوهلة الأولى لرؤيتها , لا جدوى من النظر في ماهيتها , كل شيء طفح للسطح , كل شيء ظهر كما هو وبشكله الذي نراه , أعلن ما يجوب داخله , بطريقته الخاصة , ليقول إني هنا , هكذا هي الحال . والعاهرة تنظر في الاتجاه المعاكس , ما يروي شبقها , لا يعني لها ما يجري , أو ربما تغض النظر كي لا تقع في مأزق لم تحسب له , ولا تريد أن تكون في مواجهة حقيقية . يوجد من تريد أن يقوم بواجبها على أكمل وجه بإشارة منها , ولها دوافع ومعطيات أخرى , تنظر إليه بعين وعين أخرى على بعل يطرب . كيف يعقل أن لا تتدخل وتحسم الأمر ؟ ربما الأمر بسيط ولا يستحق الغور في عمقه , تراقبه عن كثب , ولها فيه مآرب أخرى , رغم انه بات يهدد ما تطمح إليه ويهز سريرها . أصبح الجميع يملكون الأسلحة , وكعصابات مسلحة تملك من القدرة على فعل أي شيء , لكنها رغم ذلك لم تكترث , أليست حقا عاهرة ؟!!
تملكني الفضول لاتبعهم , اغلب الناس احتموا في بيوتهم , رغم عدم موافقة الأهل وخصوصا أختي, اتبعهم بمسافة ليست قريبة , بعد أن قرروا الانطلاق , ربما توجد مجاميع أخرى في مناطق أخرى , وكان حدسي للأمر صحيح . عند الجسر , الشوارع المرتبطة به جميعها أصبحت مقفرة , لا اثر للمراكب , لا اثر للسابلة , فقط الذين عادوا مسرعين إلى بيوتهم خوفا أن يصابوا بطلق ناري , وفقط من يحملون السلاح , إني وضعت نفسي حقا في مأزق , ليكن ما يكون , إني أريد المشاهدة لا أكثر . الشرطة وسياراتهم , الدوريات التي تم تشكيلها حديثا والتي اغلبها من الأحزاب التي ظهرت وتقاسمت السلطة انسحبت بأكملها من مفترق الطرق والشوارع ومن كل تقاطع وضعت فيه لبسط الأمن وواجباتها الأخرى, اختفت كلها فجأة , هكذا ببساطة سقطت كل أوراق التوت من ريح لم تكن عاصفة , وأصبحت جرداء من أغصانها شجرة التين عند أول أطلاقة سُمعت , أو إنهم على علم بذلك ,تبعها رشق متقطع في الهواء وأصوات عالية تهتف بشعارات ضد العملاء والمأجورين الذين سرقوا قوت الشعب ووضعوا أيديهم بيد العاهرة مباركين إياها ما قامت به وما فعلت ومن أتت به محمولا على أكتافها ولم يأبه للذي يزفر الآه وملئت أوجاعه السحب .
تساءلت مع نفسي وأنا أخطو بخوف شديد فوق الجسر , هل حقا يطالبون بحق مغتصب أم أن وراءه ألف سبب , إذا كانوا هكذا حقا فما أروعهم . ما أروع المطالب عندما تكون عادلة وحقيقية . ما أجمل من يهتف بها , أسرع , أسرع يا أخي .. ألا تخشى أن تصيبك رصاصة طائشة ,كثيرا ما سمعت تلك الجملة وغيرها من بعض المارة.
[COLOR="Blue"][عند منتصف الجسر وقفت , المدينة كما هي , منظر جميل ورائع , كم كان أبي يحب أن يقف طويلا هنا , كم كان يعشق هذا المكان , النهر العاشق للمدينة يجري في منتصفها , اختار أهلها أن يكون قلبها , يقسمها قسمين , شاطئه الحزين يشكو من الإهمال طوال سنين عدة ولم يزل كما هو , لا احد ينظر إليه برأفة , لا احد يكترث ما يريده النهر وما يستحقه , لكنه لم ينطق بشفه , مرحا كما عرفته , هادئا يبدو كأهله والصخب يملئ جوفه , عاشقا مزهوا بنفسه كأبنائه , بعض من أشجار النخيل تعكس عليه ظلاله , فرحا إذا أقبلت عليه , يبادلك البسمة , كم من الوقت نحتاج لنعرف انه لم يفقد صبره , كم من الوقت نحتاج لنعطيه حقه ومن يعنيه امره, جميلا ومتجددا دوما ينشد أغانيه لا يعرفها إلا العاشق وحده , ويعرفها من امتلك حقا بصره , سررت جدا به وشعرت انه فرح , الشمس تعكس ألوانها فيه , ينقلها بأمانة كما هي , لم يطلب منها شيء , انعكست في نظري ,زاهية ألوانها , توجست ما يبوح به , وتوجست إني عرفت قدري بقدره . ربت احدهم على كتفي , لا يمكن أن تقف هنا , حقا انه مكان مرتفع وخطرا في نفس الوقت , لكنه بنفس الوقت يعطيني مساحة اكبر كي أرى ما أريد رؤيته , تقدمت خطوات , رجعت بأكثر منها للخلف ثم عزمت أمري وتقدمت أكثر .مرعبة جدا أصوات الانفجار وأصوات الطلقات النارية الكثيفة للرصاص الذي بدأ ينهمر كأنه المطر, ومزق السكينة , فزعت الطيور نحو عمق البساتين والحقول , ارتفعت أعلى في السماء متجهة حيث لا يعكر صفوها الضجيج , وارتفعت أيضا للأعلى سحب الدخان كغيمة فوق سماء المدينة , لا جدوى من البقاء في مكان مرتفع , هرعت كشحاذ يبحث عن مكان يلوذ به في ليل ممطر تحت الجسر , متعثرا بأقدامي المتثاقلة من الخوف , أقدامي التي أصبحت لا اشعر بها ولا اعرف ماذا أصابها , لا تقوى على حمل جسد ضئيل ونحيف مسافة قليلة , سيارات الإسعاف تزعق بأصواتها , ربما هي في طريقها لحمل المصابين والجرحى , أصوات عالية تطلب من الجميع التفرق وعدم الاقتراب والمكوث في أماكنهم في مكبرات الصوت , وقع أقدام مسرعة , أنفاس متقطعة ولاهثة , سيارات (همر) مسرعة جدا تقل أشخاص بملابس عسكرية متهيئين متأهبين للقتال .
فوضى عارمة وقلق يعم كل مكان , لم انتبه في البداية لأشخاص كانوا قريبين مني يحتمون من الرصاص كما أنا تحت الجسر , بعضهم يحمل السلاح , عيونهم تتحدث عن الفزع , لا يجمعنا سوى الخوف والصمت ونظرات قلقة تحمل مشاعر وأحاسيس مشتركة من هاجس خفي , متسمرين في أماكنهم , وجوههم مصفرة , كأنها وجوه الموتى , يتنفسون الصعداء كلما انخفض قليلا أصوات البنادق , ثم تعود إلى حالها كما هي. مرعب حقا هو الموت وتلك هي الحقيقة , ومرعب جدا عندما يكون جليا , وعندما تراه قريب جدا منك , وانه اقترب أكثر ,ولكن , ما أروع الموت عندما توجد قضية , قضية حقيقية .
كيف لا يعرف المرء ما يجري حوله , ما يحدث , إلا بعد فوان الأوان ؟ كيف لا يعرف انه ظل سيختفي إذا ابتعد الضوء عنه . أن ما يحدث مثل زوبعة , زوبعة يتقدمها بامتياز ولم يعلن إنها خطيئة ,مثلما هو , تنتهي بانقطاع أنفاسه , وكما هي العاصفة أيضا عندما تبدأ , تقتلع الأشجار , تفعل الخراب , تزيد الأوجاع ثم ترحل إلى حيث تختفي , وربما تبتلعها الصحراء أو يلتهمها البحر . فما اشد بؤس هذا الإنسان ,انه دائما يشعر بالضجر , لا يرى ابعد من خطواته , ساخرا , منفعلا , متكبرا , لئيما , مشاكسا , متمردا , حالما أن يحصل ما ليس له , وحده يمرح الذي لم يفقد صوابه , لم تجرفه الأمواج , ويراها كما هي الأشياء . فالمرء بإمكانه أن يفعل أي شيء حتى اشد الأمور غرابة إذا فقد صوابه , إذا أغمض عينيه ولم يسمع شدو البلابل , ولم تلامس شفتاه شفتي عاشقة ,ولم يتذوق طعم قبلة ممزوجة بالرضاب , ولم يكترث للندى المتساقط في عالم ارتفعت في الأصوات كي يصبح جميلا كامرأة , عالما مقتربا جدا من نهاية بائسة , متقلصا كالتمر حين يترك على النخلة , الرقيب وحده يفلح , ينظر بشغف الثمرة , والأوفياء لها يستحقون الغزل .
لقد امتد الزمن طويلا ونحن نقف هكذا منتصبين ينظر احدنا الآخر بهلع وكأنه لا يريد أن ينتهي , ننتظر نهاية الانفعال والسخط ونستمع للأصوات المرعبة من القذائف المتساقطة والاطلاقات النارية التي تمزق السكون . وشعرت بالعطش ولم يوجد ما اشرب , شفتاي جفت من الظمأ. إلى متى ستستمر تلك الحال ؟ وجوم وقلق , لن تهدأ النفوس إذا أمتد الغضب , ولن تهدأ إذا لم يتدخل الوصل والقي فيها الحطب , إنها ترقص من الأوجاع تسأل عن السبب , كل شيء يدعوا للريب فيها , كأنها مدينة تسكنها الأشباح فقط , تتلظى من النار , اختارت الصمت كي تدافع عن نفسها , كي لا تغرق, ولا يقال عنها ما لا تريد أن يقال فهي لم تكن يوما آثمة .وتنفست بعض من خوفي حين انخفضت كثيرا شدة الأصوات , وتنبهت لسيارة صغيرة توقفت , ترجل بعض من فيها , يبدو إنهم ظلوا الطريق أو ابتعدوا عن المكان الذي يجري في القتال , يبحثون عن مكان آمن وسط هذا الجو المشحون بالكراهية , هدأ الأمر , قال احدهم , لكن أصوات البنادق لم يزل يسمع . كنت قد تعبت جدا من السأم , من الضجر , من الانتظار كي ينقشع هذا الصخب . في كل المدن التي وطأتها قدمي لم اشعر بما شعرت به الآن , وفي كل أحلامي لم اصدق إني موجودا في خضم معركة , معركة لم اعرف دوافعها وأسبابها بعد , كم أنا أحمق , من يريد المعرفة عليه أن يتريث , ليرى ماذا سيحصل . ولكن , ماذا سأحصل ؟ المعارك كلها خاسرة ,من يخوضها ومن سيربح , فكم يكون الثمن باهظا لو تعرضت لإصابة , لقد جئت كي أرى وامرح , خنقتني العبرة , شهقت بألم , ندمت لأني اتبعت غريزة الأحمق , وندمت أكثر لأني تخطيت حدود العقل , لا بأس , كل شيء عاد كما هو ,فقد بدأت تدب الحركة شيئا فشيئا في الجوار , أصوات رجال فوق الجسر , مركبات متباعدة بين واحدة وأخرى , تقدمت بضع خطوات , بيت زامل المناع كما هو , نخيل بستانه الوارف الظلال لم يكن على عهده , البلابل التي سميت باسمه ,آه البلابل , كم تمنيت عندما كنت صغيرا أن احضى بواحد منها , صوتها الشجي لم يزل يسكن في ذاكرتي , استيقظ فجأة وغمر نفسي بهجة بعد كل هذا القلق . لم تكن معركة حقيقية حقا , ثيابي اتسخت , كان لغطا فحسب , صراع من اجل السيطرة بطريقة سمجة , لها رواسب في مخيلة الآخرين , تركها في النفوس ارث امتدت جذوره عميقا مع الزمن , لن تضمد الجراح هكذا , الجراح تنزف بغزارة منذ زمن, لا يطربها الذي وقع , لا يطربها هذا العهر . الشوارع مغطاة بالأنقاض والمركبات بأنواعها محترقة , فعلت فعلها القذائف في كل مكان وصلت إليه منذ بداية الخصام ولا أقول الحرب , الحرب نعم, فعلت فعلها القبيح عندما أعلنت ودخلت القوات الغازية بغطاء دولي , الشوارع امتلأت فجوات واسعة من القذائف المتساقطة , وتبعثرت أيضا قطع الرصيف الإسمنتية أجزاء متناثرة . كان العطش قد اشتد بيَ كثيرا , صداع شديد لا زمني , كان الخوف له سببا وربما العطش له سبب في ذلك ,عندها وقع نظري على البهو , تلك البناية التي تشبه الكوخ التي صممت لتكون مسرحا رئيسيا للمدينة ومكانا للندوات والحفلات والمهرجانات الثقافية هو ايضا طعن بقذيفة في خاصرته لم يزل يشكو جرحه , وأجزاء كثيرة منه متناثرة , اقتربت منه , كان مهملا جدا , أفرغت كل محتوياته , لم يبقى منه سوى الهيكل , تسكنه إحدى العوائل التي فقدت منزلها , ومن أجزائه المتناثرة عملت بجهد لتجعل بعضا منه مأوى وسياج يحفظ من يوجد خلفه .كانت حركة المركبات قد نشطت وازدادت حركة المارة , المسلحون اختفوا فجأة , ابتلعتهم الأرض , لا احد الآن يحمل السلاح . في الشارع الجميل الذي اعشقه بداية التقاطع , المقبل ببسمة على بناية البهو وبدايته ,حيث يمتد عميقا في قلب المدينة وشارعها الرئيسي الذي كان يسمى عكد الهوى والذي أصبح فيما بعد بشارع ألحبوبي- تيمنا بالمجاهد الكبير الشاعر محمد سعيد ألحبوبي حيث وافاه الأجل في هذه المدينة وفي بيت العضاض بعد حزن وسأم أصابه في معركة في البصرة لمواجهة الغزو البريطاني للعراق عام 1914 ,- امتلأت عيوني دموع الفرح , لامست يدي جدار المدرسة الملتصقة بالقسم الداخلي للبنات , غمر كل جسدي المرح , وددت لو اصرخ , لو ارقص , شربت بعض الماء من بائع على الرصيف رغم قذارة الكأس جرعة واحدة . رائحة الشارع بعثت البهجة في نفسي رغم الإهمال والوجع والخراب الذي لحقه , لم يزل كما هو , لا احد يستطيع أن ينكر كم يملك القلب له من وجد , وكم طوته أقدامنا فرحا نلهث في صبانا , نلهو ونلعب , وكم وقعت دفاترنا في وحله أيام الدراسة عندما ينزل المطر . توقفت , رغبت فجأة النظر في المستشفى , كانت مكتظة بالجرحى , أعداد غفيرة من ذويهم يحتشدون عند المدخل , ينتظرون الإذن بالسماح لرؤية جرحاهم , خجلت جدا لاني شهدت ما يحصل وأصبت بصدمة مؤلمة وكأني أمام هذا العهر كمن تعرى وسط جمع غفير من البشر ولم يستطع أن يستر عورته , كنت خجلا جدا من نفسي لأني عرفت جيدا ما يجري . وأستطيع القول أن الجميع قد خدع لا شيء أكثر . في خضم هذا القتال , الخصام , خطة خطرة للعب , خطة للبقاء هنا فترة أطول , سوف تكشفها الأيام عن قريب وتوضع على الطاولات لمعرفة السبب , سوف يندم الجميع بعد أن يعرفوا هوية القاتل الشرير الذي أضرم النار وذكى فيها الحطب متدحرجين ككرة كيف يشاء لها أن تكون عندما تركل بالقدم , ولكن ,عندما يحين الوقت تكون الشمس قاربت المغيب , لا احد الآن يفهم اللعبة , لا احد الآن يريد أن يفهم السر . المسار واضح , لا يحتاج إلى النور , وحدهم المتعكزون بالفضيلة , اللصوص , والأبواق المأجورة , لا يحبون الألفة , لاشك إنهم يمسكون شراع المركب , يكتبون أناشيده , يرسمون مصيره , يغضون البصر عما نحب . كل ما نحتاجه أن ننظر بعمق باتجاه الشمس . المأجورين , الرثة ثيابهم , سيتساقطون كأوراق الخريف . والأزهار فقط تبقى نظرة بألوانها وعطرها .
وبتثاقل تابعت أقدامي سيرها على رصيف شارعي الجميل تعصف في رأسي أفكار وذكريات , متزاحمة كأنها شريط كثيف الصور استيقظت فيه الأحاسيس والرغبة امتزج بها الخوف والمتعة , الدهشة و الاستغراب , يغمرني شعور غريب وصدى صوت يمزق أحشائي ويأمرني بالعودة والرجوع بأسرع وقت , لم أطيق ما رأيت وما يحصل, وخزني القلق من الخطر الذي يعصف بأيامنا المقبلة , وكيف سيجتمع المتخاصمون لإزاحته والفرصة لم تزل مؤاتية ,ولكن يبدو جليا إن الأمر لا يعني احد ,فحزمت أمري احمل حقيبتي وأنا أودع من أودهم ومن التقيت بهم وسط دهشة وتساؤل , وأيقنت أن الخراب آت مرة أخرى لا محالة يرتدي ثيابا أخرى , وأيقنت أن لا جدوى من الصراخ , متشابهة الأيام كلها في خن الدجاج, روائحها , طعامها , بيضها , أفراخها الصغار , ديكها المبجل أبدا مزهوا على الدوام , سمائها لا يفارقه الغمام , لا ادري , ربما ذلك ما تفعله قوارير الماء في الأحلام .الذباب , آه الذباب متزاحما بكثافة على الطبق . والخوف يغمرني أن يحمل الوباء , . الحمير وحدها تمرح . زادوها فوق أوجاعها وجع , المسعورين , كلاب الصنم , اختاروا طريقا آخر , ترنحوا من الوجل , فقدوا شهية الجماع , تناثروا في المساجد , ومرة أخرى وجدوا متعة في حمل الحطب , خلعوا ثيابهم , ثياب الأمس , تركوها جانبا , لبسوا ثيابا أخرى , أطالوا لحاهم , تركوا أقلامهم على المناضد , استبدلوها , ووضعوا بدلا منها في أصابعهم خواتم , وشرعوا بالاتهام للأخر , يا لبؤس حظنا العاثر .,انهم أعلنوا بلا هوادة الحرب على النهار في كل المدن والأرياف , من لا يعلن توبته هو الخاسر , ومن لا يعلن الإيمان والولاء هو الآثم . خفافيش الظلام نهضوا من السبات , رفعوا الحراب , أعلنوا الحداد على الأيام , متثائبين على الفراش , أجازوا متعة النكاح , متكئين على وسائد , متخاصمين على الأطباق , يتنابزون علنا بالشتائم , سذج حتى النخاع , يطربهم الخصام , لا يجيدون معنى للكلام , همهم الأكبر أن تتوسع اكبر هذه الحظائر , يمشطون بمتعة لحاهم , لا شأن لهم ما يأكل الفقراء , كل ما يزعجهم امتداد الأشجار , زقزقة العصافير , هديل الحمام , شدو البلابل , تجمعهم بقوة رائحة الولائم . كل شيء كما هو , ما حصل تبادل للأدوار وله فواصل , لم تزل مكومة الأفواه , لم تزل مكتومة الأنفاس , لم تزل مغمورة بالوحل كلها الأحلام , موصدة الأبواب , ولم تزل كما هي الأصفاد , متعددة الأشكال ملونة عليها أختام , في زنزانة مترامية الأطراف , لم يقترف أهلها إثما , لا يوجد بينهم عاق , شردوا , قتلوا , امتلأت بهم الأصقاع , لأنهم يعشقون السلام , لأنهم يريدون الحياة , لأنهم يسعون للخلاص , لأنهم عاشوا هنا وشربوا ماء الفرات . كيف الخلاص ؟!
الأستاذ محمد نوري قادر
قرأتها ليلة أمس دفعة واحدة حتى أنها أجهدت عيني
وكنت أتساءل هل هي قصة أم جزء من رواية
عنوانها ساعات ساخنة وأظن أن الردود ستكون ساخنة أيضا
ربما أعود ثانية ...
تقبل مروري وتحيتي