لكل أمة رمزها الثقافي الأسمى الذي يجسد هويتها و خصوصيتها أمام مختلف الثقافات التي يزخر بها العالم. لا شك أن ربط الثقافة بالتاريخ ضمن دلالته الكرونولوجية / التقنية موقف جزئي، فالثقافة مفهوم مركب يشتمل انجازات مجموعة بشرية ما بدلالة الزمن تقدما و نكوصا.
إذا اعتبرنا الحدوث الثقافي مستقلا عن الدين، فإننا نمنحه في هذه الحالة بعدا بشريا بحتا، غير أن المناطق التي وصل إليها الاسلام تتسم بتداخل وشيج بين الممارسات الدينية و الاجتهادات الفردية و الجماعية الملحقة بها من ناحية، و بين منظومتها الثقافية من الناحية الأخرى.
إن الثقافة ليست مكونا هوياتيا ماضويا، هي كل التفاصيل التي ننشىء منها المعتاد اليومي.
فصل الثقافة عن الماضي لا يحرمنا من التأكيد على الأهمية العليا التي تكتسيها الفعاليات الثقافية المتصلة بالجذور و التقاليد و الفلكلور، و هذا الانجراف الانطباعي الخلاب هو الذي يحيلنا الى التجربة الفريدة التي اختطها ناس الغيوان منذ مطلع مشوارهم الفني المتألق، هؤلاء العمالقة الذين انطلقت أسطورتهم من الحي المحمدي الكائن في قلب الاعتمالات الشعبية لمدينة الدار البيضاء.
بدأت المسيرة العريقة بحلقات غنائية تمتح من الميراث الثقافي المغربي الثري و ما لبثت إلا قسطا قليلا من الوقت، قبل أن تحقق انفجارا ثقافيا ما زالت ارتداداته توحد الذوق المغربي، بل إن هؤلاء الفنانين الوارفين يسمحون للقارىء المتأمل في سجلهم الفني الحافل بصياغة مفهوم جريء : " الذوق الجماعي " و اعتباره مقياسا مضافا لدراسة النشاط الفني عن كثب، أو للحديث، رغم صعوبة هذا التوجه التحليلي، عن نجاحه ( النشاط الفني) أو اخفاقه عبر اكتسابه لقيمة تاريخية/واقعية متجددة.
السؤال الأكثر إلحاحا : كيف تمكن رجال منبثقون من رحم الحياة الشعبية المائرة و باستعمال آلات موسيقية محلية من توحيد قلوب جميع المغاربة ؟ سؤال آخر لا يقل ثقلا عن الأول : كيف تمكنوا من تجديد صفاء المكانة التي يملكونها في وجدان كل انسان مغربي؟ إنه الارتباط الوثيق بتقاليد هذا الشعب العريقة، موشحات الفلكلور المغربي التليد ، القول الحكيم المأثور، الآمال و التطلعات، التربية و القيم، التوعية، الانتصار للقضايا العادلة...كلها مواضيع احيائية تطرقت اليها أغاني ناس الغيوان البديعة. دون نسيان التصوف التعبدي و الحس الثوري الراغب في انتشال الوطن من أحزانه.
لقد أنشد هؤلاء العمالقة باخلاص متطرف نتلمسه في عمق و أصالة الصوت، و قوة المشهد ، و نزاهة الكلمة. أثقال المواطن المغربي و معاناة العالم الثالث تحت الاستغلال و الاستعمار ، كلها صور التقطتها الذاكرة الجمعية رفقة البلابل المغردة.
كل هذا المسار الساطع كتبه بمداد الألم و الأمل حملة الرسالة الفنية المغربية التي انتصرت على التقادم، إذ ما زالت مقطوعات ناس الغيوان تحظى باقبال رائج من لدن الأمة المغربية بمختلف مكوناتها الإثنية ( أندلسيون، أمازيغ، صحراويون، عرب ، أفارقة...) و الفكرية، و علام الاستغراب، فهؤلاء العظماء وضعوا التعريف الأمثل للفن الخلاق، عندما جعلوا منه بحق و بتواضع : حنجرة الضمير المغربي.