لم يكن "سالم "الطفل الوحيد الذي تعرض الى التعسف والحرمان في وقت مبكر من حياته الغضة المليئة بالتناقضات والهموم.
طفل يملأ جوفه الجوع والمرض بحياة فلاحية بسيطة مع اب يعاني المرض العضال، الذي يزاحم انفاسه الساخنة وجسده النحيف الثاوي على فراشه المحموم بالالم المستمروعلى هذا قد امتاز ابو سالم " بالجود والكرم" مع عسره المادي ...انها لعنة المرض القاسي المشحون بالعلل التي تلاحقه كلما حرك يده او نقل خطاه في باحة بيته الطينية الصغيرة ناوجاع تدق عصب الاكرة صباحا ،مساءَِ ...لم يكن ثمة خيار امامه الا ان يزج بطفله الوحيد بالعمل ليشق نفق المصاعب في جبال الهموم التي تركتها له الحياة الفلاحية في زمن الاقطاع والسيطرة الظالمة بمهنة "رعي الغنم" عند"ابا حنظل " احد الاقطاع المتنفذين في وقته والذي كان يملك مساحات شاسعة من الاراضي التي استعبد بها الفقراء للعمل ليلا ونهارا في زراعة الحنطة والشعير ومحصول القطن وتربية الاغنام التي تمتد على تلك المساحة، تاكل القش المتبقي من مناجل الفقراء الراكضون خلف رغيف الخبز بشديد العناء والتعب.
كان ابو حنظل رجلا اقطاعيا احمقا يمارس مع الناس اقسى العقوبات الجسدية والنفسية ..التحق "سالم" بدار ابا حنظل راعيا لغنمه الكثيرة ليصبح احد عمّاله في العائلة الجديدة التي تبعد كثيرا عن دار اهله ، ليستيقظ كل يوم على صوت السلطان "المتغطرس" خارجا مع ضياء الفجر مع قطيع الغنم وبصحبته زوادة خبز يابس وقليل من التمر، كوجبة غداء على طول النهار حتى المساء، يعاني البرد والحر والجوع والمرض ونقص في الحنان والتعب وفي عمر لايتجاوز (10)سنوات .
اعتاد "سالم" الى تلك الغصة البائسة كلما تطلع الى وجه "ابو حنظل " الاسمر ،المتجعد كاخاديد صحراء قاحلة في ظهيرة تموزية ساخنة،مع هذا فهو يرتدي اجمل ملابس الرياء.. وياكل اشهى الاطعمة ويمتطي فرسه الدهماء، ويحمل سوطا اسودا يهش به على البشر المستعبد ، ضاربا به ظهور الفقراء عندما يشتهي لذة الانتقام.
في صباح يوم بارد وهواء يحمل في طياته رذاذ الودق النازل من غيم السماء المطيرة في عقد الاربعينيات عقب ليلة هطل فيها المطرعلى شدته مع رعد وبرق وصقيع الذي اخاف سالما فكان سهره اضطراريا ،فتاخر في نومه الى ماقبل طلوع الشمس ليسمع صوت "ابا حنظل" قد ارعد في باب الغرفة الطينية المغلقة بباب من الحلفاء المضغوطة بالحبال ،المتصدعة الجدران"انها غرفة "للبؤساء" والتي ينام بها كاليتيم الذي لاملاذ له ليفزع بسرعه راكضا الى الباب: ياولد ل مازلت نائما والغنم ماتت جوعا ؟
لم يكن من سالم الا ان خرج ليصفعه بضربه موجعه اسقطته على الارض ليشهق باكيا آخذا غنمه حاملا عصاه ليقودها بأرض فلاة قاسى بها اصعب لحظات حياته بثيابه الرثة التي أهداها إليه "ابا حنظل"في بداية عمله وحذاء متهريء ...خرج يمشي ويمسح الدموع بخشونة يده مستذكرا حضن امه الدافيء الذي فارقه مبكرا وتحمّل شضف العيش في بادية نائية يخيم عليها الظلم والظلام .
من ضربة ابوحنظل "ذلك الرعديد"انتفض سالم مع نفسه قائلا الى متى اعيش هذا الاذلال؟علي ان اغادر المكان على الفور واهرب الى اهلي لان هذا الرجل سيأتي علي ... .
لم يكن منه الا ان ترك الاغنام قرب دار"الاقطاع" راكضا مغالبا بكاء الطفل فيه وسقوطه المتكررعلى الارض حتى وصوله الى دار احدى العجائزالتي كانت قد عرفته بمرور السنين التي قضاها في هذه المنطقة...
قالت بصوتها الخائر...
ياولدي اليس لدى اهلك لدى اهلك خبزا يطعمونك اياه بدل هذه المذلة ..لم يرد باي كلمة لأنها تجهل حجم البؤس والشقاء الذي مرت به عائلته،ولم يتمكن ان يمنع نفسه من التألم لكلماتها اخذته وادخلته الدار، خشية ان يلحقه "ابو حنظل"الذي تعرف طباعة السيئة.
بعد وقت قصيروصل "ابو حنظل" دارها وهو يمتطي صهوة جواده حاملا سوطه الاسود طالبا منها الصبي فاقسمت ان لاتعطيه ابدا .. فاقسم لها انه يحبه ويعزه وانه بمقام ابنه وانه حريص عليه ولن يصيبه بمكروه وسيرضيه فيما يريد ولأنها امراة وقلبها عطوفا صدقت قول هذا المارد الجبروت مع خوفها من طباعه فاخذ "سالم" المسكين وعلى مسافة (100م) من دارها ليسحب بيده سلسلة الفرس ويضربه بقوة على ظهره ليسقط على الارض منكبا على وجهه ثم يترجل من فرسه لينقض عليه ضربا مبرحا..يتبع ذلك السباب والشتم والمفردات النابية التي تخدش الحياء حتى تعالى صوت الطفل بالصراخ اعالي السماء وفضاء البادية الغافية...لم يكتف عند هذا الحد بل خلع الثوب من جسده الصغير والذي اشتراه له ذات يوم ليتركه يرتجف بردا فلم يبق على جسده الاّ "لباسا"يغطى سوءته "ويشمغا اسودا" لفه حول رقبته وحزنه وبكاءه.
توجه سالم حافي القدمين الى منطقة قد تصاعد الضباب بها مع اشعة الشمس المتنقلة بين جبال من الغيوم لتنظره فتاة اول شبابها وخلفها قطيع غنم وعلى مقربة من داراهلها ..هربت خائفة منه... اذ ليس من المعقول ان يمشي انسانا عاريا بجو كهذا....اخبرت والدها بالامر ليخرج سائلا من انت "انس ...جن" اجابه "سالم" وهو مرتعد الفرائص بردا وخوفا وهو يحكي له قصته ...تاسف الرجل لاجله واخذه الى الدار والبسه ثوبا ودفىء عظامه واوصله اهله ليجهش في حضن امه بكاءا مرا ويشكو قسوة حياته فابكى ذويه لاسيما انها قصة حرمان وتسلط وفقر مدقع.
نام "سالم" على ذراع امه ليشم رائحة المسك والقرنقل التي تفوح من خمارها الاسود والتي حرم منها منذ ثلاث سنوات ...اجتمع في صباح اليوم التالي اعمامه وابيه واقرباؤه فغضبوا غضبا شديدا لما اصاب صغيرهم واتفقوا ان يردوا اعتبارهم امام "ابا حنظل" بليلة ظلماء ممطرة فلايرد الثار وقت ذاك الا شجعان الرجال اهل القوة والباس والجلد واشاراحدهم الى والد "سالم " بان يقتل "ابا حنظل " فرد والد سالم لا... لا.. لقد اكلنا خبزا من خيره فلا يصح ان نفعل ذلك...والقتل فعل الاشرار؟؟
سار رجال الثأرالطريق الوعرالبعيد يحملون جرح فقرهم ومعاناة ابنهم الى دار"ابا حنظل" التي حفت بالكلاب ودورية الحرس المسلحون بالسلاح القديم (الانكريزية) كما يطلقون عليها في لهجتهم العامية والدارجة .. أشار احدهم ان يذهبوا زاحفون على البٍطون لتحقيق ماربهم لان فشلهم يعني انتكاسة كبيرة ،فعلوا ذلك ووصلوا دون ان يشعر احد...كانت دار ابو حنظل محاطة بجدار من الطين فاستعمل الرجال خناجرهم وفتحوه واخرجوا ثلاثة أغنام من خيار مايملك وقد كمموا افواهها خشية ان تطلق اصواتا فيشعروا بهم ولربما سنوات ظلم ابو حنظل هي التي انامته بهذا الوقت والا فهو يقظ حذر من اقرب الناس لاشجاعة ولكن خوفا, وعلى مسافة بعيدة من دارة اطلقوا الرصاص تجاه داره كاشارة وانذار ...
في هذا الوقت استيقظ "ابو حنظل "فوجد الجدار قد تعرض للهدم فتاسف كثيرا وعدّ ذلك اهانة له ولحاشيته وبقى ينقب بمعلوماته حول الفاعل ..ولكنه يشك ان فعلته امس كانت سببا بذلك لكنه لايملك دليلا على ذلك،وان اثارة الموضوع قبليا حول من يظن به ربما يعرضه لمجازفة كبرى يخسر بها غناه وهيبته العزيزتين على قلبه.
ويدور الزمن ويكبر سالم ،ليصبح رجلا ولكنه لم ينس "ابو حنظل "وفعله السيء،سالم لم ينس الطفولة المرة التي تربت على سياط ابو حنظل وتدور عقارب الزمن ويموت ابو حنظل بعد مرض عضال الّم به ليلتقيا" سالم وحنظل" وقد تجاوز حنظل الخمسين من العمرفبادر الى سالم قائلا: لم تزر ابي اثناء مرضه ...ولم تزرنا في عزائه
يرد سالم بحراره السوط مازال يؤلمني ياحنظل ليس بيني وبين ابيك ذكرى طيبة والدك لايستحق مني لاهذه ولاتلك لانه ظالم ...
ويرد حنظل وهل مازلت حاقدا؟
سالم : نعم لان ظهري مازال ساخنا منذ اربعون عاما من سوط والدك .
سالم واذّني مازلت اكمّها الى الان من قبح كلماته
سالم لن اغفر له زلته الابدية ولو اصبح كثبانا رمليه فطفولتي خنقت بيده السمراء وذقت مالم يذقه احد ...
سالم: ياحنظل يبدو انك نسيت ...لانك اصبحت شيخا مكان ابيك
حنظل هل بالامكان ان اجزيك عما فعله والدي لتكفير ذلك التاريخ
سالم :ولو ملئت حجري ذهبا ..وليذهب والدك الى الجحيم ولكن ياحنظل ( اعلم ان الانسان بالخوف من الاخرة وحسن الاخلاق، مدة تنقضي وتخلفه الذكريات ،فاياك من صنيع أبيك الذي لايغتفر ..)
سار سالم بقوة تاركا حنظل يقلب في هموم ابيه الموجعة لانه اعرف الناس بافعاله المنكرة وينفث في سيجارته (الملفوفة)بورق ناعم ابيض...قائلا يااسفا كم من درس قاس يؤذيني مضى الزمن والاوجاع تطحن قلبي..... مضى الزمن وسكن والدي المقابر، فلتخلد الذكريات بعد الممات بحسناتها وسيئاتها ياابا حنظل.
حنظل مازال في حيرته ليعلن في احاسيسة التي ألمّت بالبكاء ان يترك ارث ابيه الذي خلّفه ا لسوط والصوت والفرس .
ادرك "سالم" ان الزمن كفيل ان يصنع مااستحال ان يصنعه احد.
سالم اصبح صاحب مال وجاه وقوة كان يفتقدها امام سوط الملوك في يوم ما ..."ويضحك ساخرا من لعبة الزمن وهو يمر من مقبرة قد جندل بها ابي حنظل وينادي بصوت خفي هل لك ان تحمل السوط مرة اخرى "ويردف بهدوء يدعو الى الريبة " غفرانك ربي .
سالم يحاور نفسه بحذراليوم ابو حنظل رملا على قارعة الطريق ولكن الزمن كفيل بالانتصارعلى الاقوياء وان طال ظلم السياط فلا عدة لي الا التحلي بالصبر فالحياة عار اذ لم تنّق وتطهّر وتبقى وشم ذلة ومهانة في جبين من يسيء لانسانيتها حتى النهاية ........."استلقى سالم على ظهرة قائلا- ارتح ايها الظهر من وجع السياط...فلن ينهض ابو حنظل مرة اخرى ...
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 08-26-2011 في 01:26 AM.
الزميلة عواطف...تحية طيبة
نعم في كل زمان ومكان فحياتنا بدات صراعا
نتذ ان ازل الشياطين والدينا حواء وادم
ومنذ ان قتل قابيل هابيل (ياويلتي اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فاواري سوءة اخي )
فالعواطف شيء والعقل شيء اللهم تجاوز عنا وعن محبينا بالامن والامان
شكرا لحسن المتابعة.....دمتم بامان الله