لو أردنا أن نبين مساحات التناص في تاريخنا الشعري منذ الأدب الجاهلي حتى يومنا هذا لوجدنا كثير من التناص وتداخل في كثير من قصائد الشعراء إلى حد لا نستطيع التميز بين قصيدة وآخر لمختلف الشعراء ألا في نفس أو أسلوب الشاعر ، ولكي نصل إلى هذه الحقيقة علينا أن نخضع هذه النصوص إلى التشريح ( سيميولوجي) وكما قال أو عرفه روبرت شولز( النصوص المتناصه أو المتداخلة أخذ به السيميولوجين مثل بارت وجينية وكريستيفا ويفاتير وهو اصطلاح يحمل وثيقة الخصوصية، تختلف بين ناقد وآخر والمبدأ العام فيه هو أن النصوص تشير إلى نصوص أخرى ، مثلما أن الإشارات(signs) تشير إلى أشارات أخرى ، وليس إلى الأشياء المعنية مباشرة . والفنان يكتب ويرسم لا من الطبيعة وإنما من وسائل أسلافه في تحويل الطبيعة إلى نص.لذا فأن النص المتناص ( المتداخل هو: يتسرب إلى داخل نص آخر ، ليجسد المدلولات ، سواء وعى الكاتب بذلك أو لم يع ِ)
ومثال على هذا معارضة شوقي للبحتري في سينيته، أو معارضات( يا ليل الصب )وقد بلغت معارضة من شعراء كثيرين منهم شوقي والرصافي . فكل معارضة أومتناصه هي نص متداخل مع نص سابق له.
وعن هذا يقول ليتش( إن النص ليس ذاتا مستقلة أو مادة موحدة. ولكنه سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى ونظامه اللغوي ومع قواعده ومعجمه)
والتناص هو مفهوم بدأ حديثا انطلاقا من ( شلوفسكي) الذي فتق الفكرة فأخذها عنه ( باختين) الذي حولها الى نظرية حقيقة وتعتمد هذه النظرية على التداخل القائم بين النصوص، فكل ظاهرة أسلوبية تنبثق من نص ما هي قضية وجود وحضور في كل أسلوب جديد،
وسوف نرجع الى الأدب الجاهلي حيث نرى أن الشاعر العربي يصدح من مداخلاته مع سواه وما أشتكى من ذلك ألا لوقوعه فيه قسرا وعن غير وعي ، وفيه قال زهير بن أبي سلمى
ما أرنا نقول إلا معارا أو معادا من لفظنا مكرورا
وما صرخة عنترة ومعلقته ألا تأكيد على هذا ( هل غادر الشعراء من متردم) وقد نجد أكثر من هذا لو بحثنا في تاريخي الشعري فما قول الأخطل أشد وأبلغ عن نفسه وعن غيرة من الشعراء( نحن الشعراء أسرق من الصاغة)
وكما صرح به ابن فارس (الشعراء أمراء الكلام .. يقدمون و يأخرون ويومئون ويشيرون ويختلسون ويعيرون ويستعيرون)
وهذا ما سمح الى الشعراء العرب بأن يتغزلوا بليلى العامرية ومنهم حميد بن ثور( مات في خلافة عثمان رضي الله عنه ) وهذا قوله
لتتخذا لي بارك الله فيكما الى آل ليلى العامرية سلما
وكذلك وان توبة بن حمير( مات سنة 80 ه )
كأن القلب ليلة فيل يغدي بليلى العامرية أو يراح
قطاه عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
وكذلك تغزل بليلى العامرية سويد بن أبي كاهل
فدعاني حب سلمى بعدما ذهب الجدة مني والريع
كي ندخل إلى التناص في اللغات الأخرى علينا أولا أن نعرف هل أن معنى النص موجود أو غائب عن تراثنا العربي كما هو في صيغته الحديثة لذلك سوف أثبت هذا ثم أعرج إلى التناص في الأدب الغربي
حيث يذكر قاموس المحيط (نص الشيء حركة، ونص العروس أقعدها على منصة) إما تاج العروس فنقرأ فيه( نص الشيء أظهره وكل ما ظهر فقد نص) وكذلك يورد المعجم الوسيط بعض الدلالات المولدة للنص(فالنص صيغة الكلام الأصلية التي وردت من مؤلفها والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحدا لا يحمل التأويل ، والنص من الشيء منتهاه ومبلغ أقصاه)
أما كيف أشتق النص في اللغات الأجنبية ويشتق النص من (text) ومن الاستخدام الأستعاري في اللاتينية للفعل (Texture) الذي يعني (يحوك) : (Weave) أو ينسج ويوحي بسلسة من الجمل والملفوظان المنسوجة بنيويا ودلاليا)
ويتضح مما تورده المعاجم القديمة والحديثة أن الدلالة الحديثة للنص لم تكن غائبة كليا في المعجم العربي وهي تلتقي أيضا مع دلالته التي تشير إلى معنى بلوغ الغاية والاكتمال في صنع وهذا لا بد أن ينتقل إلى النص الأدبي الذي يمتاز عن النص العادي
لهذا سندخل في عديد من التعريفات الحديثة لهذا المصطلح فقد عرفه بول ريكو( لنطلق كلمة نص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة )
أما جوليا كرستيفا فلقد عرفت النص تعريفا جامعا إذ قالت (نعرف النص بأنه جهاز نقل لساني بعيد توزيع نظام اللغة واضعا الحديث التواصلي ، نقصد المعلومات المباشرة في علاقة مع ملفوظات مختلفة سابقة أو متزامنة).وكذلك تقول ( أن كل نص هو عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى) وبالطبع هذا يذكرنا بفكرة رولان بات عن ( النص الجماعي ) أي فكرة جماعية اللغة ومعها جماعية النص وتدخل النصوص النصوص فيما بينها.
وكما يقول كولر( انه من التظليل أن نتحدث عن قصيدة على أنها كل متجانس أو وحدة عضوية مستقلة ، تامة في نفسها وتحمل معاني ثرية فائضة وأن التناول السيميولوجي يقترح نقيض ذلك ، بأن نفكر في القصيدة على أنها قول لا دلالة له ألا ضمن الأنظمة العرفية التي أكتسبها القارئ ، ولو أطلقنا أنظمة أخرى ، فأن إمكانات الدلالة عندئذ ستتغير)
وأما برتينتو فيعرفه ( أنه يمكن إطلاق مصطلح النص على أية مقطوعة معينة من العلامات اللغوية حتى وأن كانت غير مترابطة، شريطة أن يكون بميسورها أن نعثر على سياق ملائم لها)
كما ترد كلمة التناص في لسان العرب بمعنى الاتصال (يقال هذه الفلاة تناص أرض كذا وتواصيها أي تتصل بها) وتفيد الانقباض والازدحام كما يورد تاج العروس (أنتص الرجل أنقبض وتناص القوم ازدحموا ) وهذا المعنى الأخير يقترب من مفهوم التناص بصيغته الحديثة فتدخل النصوص قريب جدا من ازدحامها في النص.
إما مصطلح التناص في النقد العربي الحديث كما قلت في بداية المقالة هو ترجمة للمصطلح الفرنسي (intertext) حيث تعني كلمة (inter)في الفرنسية التبادل بينما تعني كلمة (Texte) النص وأصلها مشتق من الفعل اللاتيني (Textere) :لتبادل النصي وقد ترجم إلى العربية بالتناص الذي يعني تعالق النصوص بعضها ببعض وصيغته (التناص مصدر الفعل على وزنه (تفاعيل)تأتي على اثنين أو أكثر وهو تداخل النصوص ببعضها عند الكاتب طلبا لتقوية الأثر، كما يرد مصطلح (Intertexuel) وقد ترجم الى التناصي أو المتناص وهو ما يفيد العملية الوصفية في التناص ومصطلح (Intertextualile) وقد ترجمه النقاد العرب ب( التناصية أو النصوصية ) وهذه الترجمة جاءت على غرار ترجمة مصطلح (Structuralisme)
بالبنائية أو البنيوية)
ومن اجل أكمال هذا أورد ما ورده الكاتب سعيد علوش في كتابه (معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة) بعض التعريفات لمصطلح التناص بدء من جوليا كرسيفيا وانتهاء برولان بارت وحسب ما يلي 1- يعتبر التناص عند كرسيفيا أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص أخرى سابقة عنها ومعاصرة لهاز 2- يرى (سوليرس)، التناص في كل نص ، يتموضع في ملتقى نصوص كثيرة بحيث يعتبر قراءة جديدة ،تشديدا وتكثيفا. 3- يكون (التناص9 طبقات جيولوجية كتابية، تتم عبر أعادة استيعاب غير محدد لمواد النص ، بحيث تظهر مقاطع النص الأدبي عبارة عن تحولات لمقاطع مأخوذة من خطابات أخرى داخل مكون إيديولوجي شامل. 4- يظهر (التناص) مع التحليلات التحويلية عند (كرستيفيا ) في النص الروائي. 5- يرى فوكو بأنه لا وجود لتعبير لا يفترض تعبيرا آخر،ولا وجود لما يتولد من ذاته ،بل من تواجد أحداث متسلسلة ومتتابعة، ومن توزيع الوظائف والأدوار. 6- أما (بارت) فيخلص إلى أن (لا نهائية) التناص ، هي قانون هذا الأخير. 7- فالتناص عملية وراثية للنصوص،والنص المتناص يكاد يحمل بعض صفات الأصول (ولقد عانى مصطلح التناص في النقد العربي الحديث من تعددية في الصياغة والتشكيل فقد ظهر هذا المصطلح في حقل العربي الحديث بعدة صياغات وترجمات عدة ومنها : 1-التناص أو التناصية 2- النصوصية 3- تداخل النصوص أو النصوص المتداخلة 4- النص الغائب 5- النصوص المهاجرة (المهاجرة إليها) 6- تضافر النصوص 7- النصوص الحالة و المزاحة 8-تفاعل النصوص 9- التداخل النصي 10- التعدي النصي 11- عبر النصية 12- البينصوصية 13-التنصيص كما وشهد مفهوم التناص خلطا وتداخلا واسعين بينه وبين المفاهيم الأخرى مثل ( الأدب المقارن)و(المثاقفة)و( دراسة المصادر) و(السرقات الأدبية)نتيجة للاقتراب بين هذا المفهوم وتلك المفاهيم فيما يخص الاتجاه العام بينهما في التواصل والتأثير وهذا أمر لا يخص العرب وحدهم وإنما هو حس عالمي. فالأديب الكبير برا يخت يقول عن أديب كبير مثله ( أو أكبر منه) ما يلي ( وشكسبير أيضا كان سارقا) ولا يخفي ما في كلمة (أيضا) من تضمين يدخل من بينهم برايخت نفسه وهذا ما جعل فاليري يقول عن العمل الأدبي : إن كل عمل هو نتيجة لأمور متعددة أضافه إلى المؤلف) أو كما قال الناقد المعاصر فراي ( كل ما هو جديد في الأدب ليس إلا مادة قديمة صيغت مرة أخرى بطريقة تقتضي تصنيفا جديدا)
شكرا لك من القلب على هذه المحاضرة الثرية ، الغنية ..
رائعة في التقديم والعرض ، بعيدة عن النعقيد ...قدمتها للقاريء
بيسر وسهولة ، وقدمت شواهد تعزز وجهة النظر وجمال التقديم
لتعمق داخلنا مفهوم التناص ....
أتمنى منك أن تقدم للمتلقي محاضرة عن التفكيك ( المدرسة البنيوية ) ودور
الأديب الكبير كمال أبو ديب ..حتى تعمَّ الفائدة ...
شكرا لك من القلب على هذه المحاضرة الثرية ، الغنية ..
رائعة في التقديم والعرض ، بعيدة عن النعقيد ...قدمتها للقاريء
بيسر وسهولة ، وقدمت شواهد تعزز وجهة النظر وجمال التقديم
لتعمق داخلنا مفهوم التناص ....
أتمنى منك أن تقدم للمتلقي محاضرة عن التفكيك ( المدرسة البنيوية ) ودور
الأديب الكبير كمال أبو ديب ..حتى تعمَّ الفائدة ...
أهلا بك مجددا قامة باسقة في منتدى الأسرة الواحدة
محبتي
الوليد
نابلس المحتلة
صديقي العزيز الوليد
شكرا لمرورك المزدهر بالمعنى والمعرفة .. تعرف يا صديقي أن البحث في مثل هذه المواضيع يتطلب الوقت الكثير لكي لا ندخلة في عالم الطلاسم ولكي يكون قريب الفهم للكل .. وأنشاء سوف يكون كما ذكرت ... محبتي وتقديري
موضوعة راقية ,تعالج حالة التناص والنصية ,من خلال تأريخ الشعر جاهله وحديثه ,ولاشك أننا جميعا نقع تحت طائلة هذه الدائرة ,وهذا المنحى ,كون أن التناص إن لم يكن عبور إلزامي ,فهو ضرورة حتمية ,لأننا نجد أنفسنا مجبرين على تدوين التشابه والإسقاط دون وعي منا ,وهذا أمر رائع ,,
ألأستاذ المالكي .. تحية واحترام
لقد وفيّت كثيراً حين استشهدت بنصوص كان بعضها يتضمن التناص
إلا أني أستغرب من ناقد يحيل الإبداع إلى ماسبقه .. كالطبيعة مثلاً.
ولي استفسار عن رأيك بما طرحه رولان بارت في أن فترة الصمت بين الملقي والمتلقي هي أخطر الفترات.
كون هذه الفترة تتجبر المتلقي إلى التحليل ، واسترجاع عندياته قبل التصريح.
أود التنور برأي جنابكم الكريم ، بتوضيح ذلك.
فالحوار مع شخصية ممتلئة وعياً تغري أي متابع بالتواصل.
موضوعة راقية ,تعالج حالة التناص والنصية ,من خلال تأريخ الشعر جاهله وحديثه ,ولاشك أننا جميعا نقع تحت طائلة هذه الدائرة ,وهذا المنحى ,كون أن التناص إن لم يكن عبور إلزامي ,فهو ضرورة حتمية ,لأننا نجد أنفسنا مجبرين على تدوين التشابه والإسقاط دون وعي منا ,وهذا أمر رائع ,,
تقديري لجهدك البيّن أخي عباس,,
صديقي العزيز كمال
كبير التقدير لمرورك القدير . نعم أخي هناك فرق كبير بين من ينقل النص وينسبه له وبين من يتأثر بالنص ويعيد صياغته وفق ذائقته الشعرية .. وقد حدث مثل هذا في تأثر في التناص وفي خلق رؤيا جديدة وهما الشاعران الكبيران بدر شاكر السياب و صلاح عبد الصبور حيث تأثرا ب (س.ت .اليوت ) بقصيدته ( أرض اليباب ) وحيث كانت قصيدة السياب (أنشودة المطر ) وكانت قصيدةصلاح عبد الصبور (لحن) من ديوان الناس في بلادي .. أي هناك التأثير وليس النقل .. تقديري ومحبتي