وسقط الشتاء ...ولوج في عمق النص
هنا تستكمل الأديبة حديثها ، وتسلط الضوء على ما أرادت أن تلفت َ له نظر المتلقي
أرادت أن تضع مشهد الشتاء أمام عيون المتلقي ، الشتاء الذي يحمل في دواخلها الكثير من الذكريات ...وأي ذكريات حركت وجدانها ..لنستمر في القراءة ونقترب أكثر من النص ...
شتاءٌ عقبَ الباب
موقدٌ عتيقٌ
هنااااك...
حطب أمي
يعاني الاخضرار
شتاء عقب الباب ...مشهد ، وصورة واضحة ، صورة رأتها الأديبة ...ولم تتخيلها ، فهي حقيقة جلية وواضحة ...
موقد عتيق ...هنا تنبش الذاكرة ، وتستعيد مشهد الموقد الذي نعرفه في بلادنا العربية في فصل الشتاء ولكل منا معه ذكريات خاصة ...
هناااااك ...هنا الأديبة أمل لم تكثر من رسم الألف جزافا ، بل أرادت من ال ( هناك ) أن تؤكد للمتلقي ، أن ( الشتاء / الموقد ) في بلاد بعيدة جغرافيا ، قريبة وجدانيا ..هناك حيث بغداد ...وألقت بقولها ( حطب أمي ) دلالة واضحة الربط جميلة الوصل بين المشاهد التي رأتها والتي تخيلتها ...فما أن سقط الشتاء في مكان تعيش فيه الآن حتى هاجت ذكريات شتاء بغداد البعيد جغرافيا وتذكرت موقد أمها ...
حطب ُ أمي ، يعاني الإخضرار ...
الحطب من مفردات ( الموقد الذي نعرفه في الشتاء ) .
أمي : اللفظ الظاهر ( والدتها ) وهي بالكاد ما تعنيه ، ولكننا نستطيع أن نعتبر المقصود بمفهوم شمولي العراق ، وهل هناك أجمل من اعتبار الوطن أم .
ولكن ...قد يسأل سائل : كيف توصلنا أن الأم هنا هي الوطن !؟
ننظر لقولها : يعاني الإخضرار . لم تقل صار أخضرا ...
وهل يخفى المشهد العراقي على متتبع وراصد لما يعانيه هذا البلد الغالي على قلوبنا !!
والخضرة مشهد جميل رائع إلا في حالة واحدة ، لا نفضل فيها الخضرة ..عندما يتعلق الأمر بالحطب ، فكم نريده جافا يابسا كي نستطيع أن نقدمه للنار لكي تتم عملية الإشتعال ..وليس أدل على ذلك من قولها ( يعاني ) ، أي أن الخضرة التي أصابت الحطب هي معاناة لأنها أفقدت الحطب خاصية من خواصه التي ننشد .
الشتاء جاء مجددا ، وموقد أمي يشكو حطبه من عدم الجاهزية لبعدي عنها ...
هذا المعنى المطروق ، والمعنى الأشمل ، عاد الشتاء وحطب الموقد يعاني خضرة في إشارة واضحة لما يحيط بعراقنا من وجع وألم ومعاناة ...أي تصوير هذا !!
لا أهذي
كلّ الخطايا
تراوغ خذلاني
لن أموت
هنا ترد ُ على من يرى في كلامها هذيانا وخروجا عن المألوف ، فالخطايا جميعها المتمثلة بقرارها البعد والسفر وترك من تحب خلف ظهرها وتكابد في غربة باردة ...
خالية من دفء وحنان وحب ..خالية من المشاعر كما زهرة مصطنعة ...هذه بعض صور الخطايا التي ارتكبتها ، خطايا تحاول جذب الخذلان فيها ، وتسقطها من دوائر الحلم الممكن إلى ما وراء الحس بالأشياء ...رغم كل ذلك ـ يأتي قرارها الجازم :
لن أموت ...
ترفع الأديبة أمل راية التحدي والإصرار ، وتقرر أن تسير عكس اتجاه الريح ...تقف في وجه الخطايا / الخذلان ، تقاوم اللاشيء ...تقترب من إرادة لا تنكسر ، تخرج في قرار غاية في التصميم ...لن أموت .
هروبٌ مقرفصٌ
جرائد المساء
لاتُرتّق عناوين مهمَلة
مستفزّة
قهقهة السروِ تلك...خلفَ الباب
هروب ٌ مقرفص ...الهروب هو الهروب ...لكنه في حالة القرفصاء يكون مصحوبا بالخوف ، وما أصعب هروب الخائف ...فيلجأ الهارب للقرفصاء كي لا يراه من يتتبع خطواته ...وهي صورة جميلة مذهلة .
جرائد المساء ..هي صحف غير طازجة ، عناوينها باهتة ، وأخبارها حامضة ..وعندما تقع عليها عيوننا تستفزنا لأنها لم تعد تحرك الدهشة فينا .
قهقهة السرو ...تتوج ُ أمل حداد نصّها بهذه الإستعارة المكنية المذهلة ، تشبه السرو بالإنسان الذي يضحك ضحكة القهقهة وحذفت المشبه به وأبقت شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية ...
وتركت الإشارة تلك خلف الصورة ...وجعلت التركيز علة صورة القهقهة ولم تقل ، تلك قهقهة السرو ...وهنا لا يخفى على المتلقي الفطن قيمة التأخير والتقديم وما فيه من جماليات تتجلى بوضوح .
خلف الباب ...وهنا خلف الباب صورتان / صورة الشتاء في مطلع النص ...
وصورة القهقهة في هذا السطر ...
تدحرجَ الشتاء
سقطَ الدفء ،
منه إليّ
تدحرج الشتاء ...
الدحرجة تكون لشيء من أعلى لأسفل ، وكأنها ترسم لنا حبيبات المطر تتدحرج من السماء ( مكان مرتفع ) وأردفتها بمفردة ( سقط ) والسقوط يكون من أعلى لأسفل .
وتشبيه الدفء بالسقوط مصحوبا بالشتاء ...فشتاؤها لا يحمل البرد ..لأنه شتاء بغداد
وموقد أمها ...لا بد أن يحمل لها الدفء والحنان ...ودلالة ذلك قولها ( إلي ) ..
هنا هي تبحث عن مشاعر مسلوبة وأحاسيس تفتقدها ...فجاءت تؤكد ذلك بقولها ( إلي ) .
من سيسأل البرد
عن عُري نوافذه ؟
لا تجرّد الوفاء
من حكمة الستر
أمل الحداد ...نص قرأته وكان لي شرف العبور الأول لفضائه ، وقرأته محاولا الإقتراب من النص ...أجزم أنني تمكنت من الولوج لدواخله ...
الوليد