ألمشاعر والشعرية في نص أتقاطر منك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ عمرمصلح
نزولاً عند رغبة أستاذي الشاعر الكبير جميل داري ، سأقرأ نص ( أتقاطر منك ) ، من زاويتين اثنتين .. وأماهيهما في استرسال واحد ، حيث سأدمج الانطباع ، مع التأويل النقدي ، سائلاً المولى التوفيق.
تنبثق الصورة في النص الأدبي انبثاقاً وتتشكَّل على شكل أنوية لغوية أولية أي أنها تنبثق لغوياً مع انبثاق الصورة في الواقع ودخولها عالم الشاعر ، وفي معظم الحالات تكون هذه الأنوية اللغوية هي جوهر لغة النص .. وحتى لو تم لاحقاً العمل المحترف على صناعته .. فإن هذه الأنوية تُحافظ على دورها الجوهري في جسده ، ويمكن تلمُّس ذلك في بعض القصائد العظيمة وتلمس أين النواة الحقيقية للقصيدة وأين الإضافات اللاحقة المتعلقة بالاحتراف اللغوي للشاعر*
وهنا اشتغلت الشاعرة عواطف عبداللطيف على نص يبتعد عن الصنعة كثيراً ، لما يكتنزه من مشاعر ، سطرتها شاعرية فذة .. وعلى حد قول الأستاذ أحمد بن خالد :
يفيض كل منا في نواصي نفسه بمشاعر جياشة متفاقمة ، تنتظر المناسبة المواتية ليصدع بها على صخرة الواقع ، فيحيلها إلى ينابيع تتفجر ، وخواطر تتولى ، وعبارات تتناغم وتتراقص على وتر الشعور المترامي المنبعث من شجا القلب ، وحنايا رائجة في الحواس ، يمكن انشطار شظاياها الرقيقة على المحيطين بك ، مما يصعد رتبة التواصل بهذا الخيط الرقيق الناصع ، الحامل في طياته وسمة البهاء والجمال.
وقد أدركت شاعرتنا تجليات هذا الأمر ، فرحَّلَت المشاعر نحو الشعر ، لإبراز حالة الوجد التي كادت أن تخنقها .. فاستدرجت الشاعرة ذاتها لتعلن عن رعشة الذاكرة ، وارتكزت عليها لبوح غير محدد الملامح .. بعد أن علقت الفأس على كتف كبيرهم / الأيام الحثيثة الخطى نحو الحلكة ، رغم علمها المسبق بأن الأيام هو اسم مستعار لحقد داهمها على حين غفلة , مشفوعة بافعال آنية.
( تربكني ، تصلبني )
هذه أول لائحة ترفعها إليه / الوطن .. مع تحفّظ واضح على ترميم ذاتها بـ ( فوضى وفضاء )
ولو تأملنا هاتين المفردتين المختلفتين من حيث الشكل فهما متشابهتان من حيث المضمون .. أي أن هنالك علاقة استدلالية قابلة للتأويل ، وليس هنالك ثمة عبثية أو اعتباط أو مصادفة خصوصاً عندما نجد ( أنفاسك ، انفاسي ) ، أي انها لملمة للكل تحت أسباب الاغتراب.
( لأبحث عن اشلائي في دهاليز الغربة )
وبعد توضيح السبب والمسبب والصراع الشعوري المعضد بالمحسوسات ، بات علينا أن نفهم هذا الاستهلال الموجع ، ونردد معها
( عبثاً أحاول أن أمنع دمعتي )
( عبثاً أحاول أن أخفي وجعي )
فلو أمعنّا النظر في ( أمنع ، أخفي ) لتأكدنا ان المنع مستحيل لذا تنازلت قليلاً لتقول أُخفي.
وهذا كله يعيدنا إلى ماابتدأنا به .. بان ذاكرتها قد اصابتها الرعشة.
وهو خاضع أيضاً لمشكلة اختلاف الثقافتين اجتماعياً ونفسياً وبيئياً. وأقصد بهما ثقافة الداخل وثقافة الخارج.
فتعاطي المكدِّرات الذي أيبس الشفافية ، وجعلها تكتظ بعناقيد عنب بكر ، متحفزة للتقطير في بودقة الروح ، جعلها ترسم الوجع على جسدها بعد أن عجز عنه الورّاقون .. الجسد الذي توهمت بأنه منخور ، وغير مرغوب فيه في مهرجان الصقيع.
وهنا نجد بكاءً من نوع خاص .. هو بكاء الــ أين
أين هو ، هم ، هي ... أنا ، أنتم
فالكل عاطل عن الأمل ، وكسب ودِّ الدمعة صار محض أعمال شَغَب.
فأن أُولى جرائم الـ ( أين ) هي نحت التبريرات ، والمسوغات جاهزة .. إلا أنها محظورة في ناموس ذر الرماد.
فالإنسان في علاقته العاطفية يسعى لإيفاء حاجته الفطرية في التزود بالمشاعر الفياضة و كذلك في نفس الوقت يعيد تصديرها إلى من استقبلها منه و أحيانا تكون العملية بالعكس وعلى أي حال هي أشبه بعملية الدورة الطبيعية.
( تكتبني الغيمات أنشودة أشواق في قفار العَطَش .. تهطل باللهفة على أرضك )
لو اكتفت الشاعرة بهذا المقطع ، لجعلت له مادة قرائية لوحده .. كونه مستوف لكل اشتراطات النص المرتبط بمرجعيات مكانية ونفسية وزمانية ، بنائياً .. حيث استطاعت وبشفافية مبهرة توصيل صورة قد تبدو هلامية للرائي ، لكنها واضحة المعالم تماماً ، وفق نظام اختزال المفاهيم.
فقيام السُدُم بكتابة أنشودة الشوق هي مغامرة صورية ، تقف الكناية أمامها مندهشة ، ولا يعيها إلا من خَبَر طرق الدلالات الكاشفة عن المقصد.
تهطل ... تهطل بماذا؟. باللهفة!!. إذاً هي صورة ملتقطة بعدسة شاعرة وبلا رتوش او تدخلات حِرَفِية .. صورة تلقائية مذهلة حد الإرتباك.
( أسمع وقع حضورك في عمق روحي .. همسك يُربك رجفة أناملي )
( فيتسربل الوجع منها بيسر .. يهشِّم صراخه جمجة السكون )
هنا اشتغلت على وظائف لغوية ، وحين نجمعها نطلق عليها الوظائف الانفعالية ، بعيداً عن الترميز ، كون المصاب واضح ، والشهود حضور .. لذا اكتفت باستعمال الانفعال بقصد التعبير عن الإحساسات والمشاعر والمواقف العاطفية تثويرياً.
وهنا أجد ضرورة ملحّة ، للوقوف على نقطتين مهمتين ، هما ، اللغة المفضية إلى حضور الفوضى واضطراب التفكير المفضي إلى نفس النتيجة.
لكون هنالك مزج واضح بين الوظيفة والجمال في بناء نص مشحون ، منذ البدء بصور دلالية ، وباقتراحات على لغة الوجع. وجع لايُرفَع ولا يُنصَب بل هو وجع مجرور بالحَسْرة الثائرة في آخر الموّال.
الدكتور توفيق الزايدي في دراسته الموسومة بـ "تجليات مفهوم الأدبية في التراث النقدي"
يقول : أننا لا نحاول أن نثبت تناول التفكير النقدي العربي الشعري أو عدم تناوله لها، إذ أنها ظاهرة لصيقة بالأدب في أي عصر بل أن الأدب لا يكون أدباً إلا بها .. هو الظاهر وهي الباطن ، هو التجلي، وهي الخفاء ، هو اللعبة ، وهي القانون.
ولأن العرب القدماء يميزون بين اللغة العادية واللغة الشعرية ، وهذا ما بينته الأحكام النقدية القديمة سأستعير ماقاله ألأوائل
يقول الفارابي : ألتوسع بالعبارة بتأثر الألفاظ بعضها ببعض وترتيبها وتحسينها، فتظهر حين ذلك الخطبيه (أو الخطابية) أولاً، ثم الشعرية قليلاً.
مع الإشارة هنا إلى أن الفارابي يتخد من الشعرية معياراً يدرس في ضوئه الشاعرية ، والشعرية والشاعرية تسميتان متغايرتان لنفس القانون القابع وراء ميلاد الحدث الشعري ، وهما بمثابة الوجه والقفا المتلازمين.
يقول ابن سينا : إن السبب المولّد للشعر في قوة الإنسان شيئان أحدهما الإلتذاذ بالمحاكاة والسبب الثاني حب الناس لتأليف المثقف والألحان ومن هاتين العلتين تولدت الشعرية وانبعثت الشعرية.
فذهب كل من ابن سينا وابن رشد إلى أن الشعرية لا تتحقق إلا بالفعل في اللغة وإجبارها على التشكيل وفق متطلبات الحدث الشعري ، وذلك لأن القول الشعري كلام مؤلف وبالتالي فالشعرية كامنة في الصياغة متولدة عن كيفيات إخراج القول.
يقول ابن الأثير : الصورة ترد في لسان العرب على ظاهرها , وعلى معنى حقيقة الشيء وهيأته , وعلى معنى صفته.
أي يقال صورة الفعل كذا أي هيأته , وصورة كذا أي صفته.
و أما التصوُّر فهو مرور الفكر بالصورة الطبيعية التي سبق أن شاهدها وانفعل بها ثم اختزنها في مخيلته.
وأما التصوير فهو إبراز الصورة إلى الخارج بشكل فني , فالتصوُّر عقلي إذاً .. أما التصوير فهو شكلــي ، فالتصوُّر هو العلاقة بين الصورة والتصوير , و أداته الفكر فقط , وأما التصوير فأداته الفكر واللسان واللغة.
والتصوير في القرآن الكريم , ليس تصويرا شكليا بل هو تصوير شامل فهو تصوير باللون , وتصوير بالحركة وتصوير بالتخيل , كما أنه تصوير بالنغمة حين تقوم مقام اللون في التمثيل , وكثيرا ما يشترك الوصف والحوار , وجرس الكلمات , ونغم العبارات , وموسيقا السياق في إبراز صورة من الصور.
أما أرسطو فيربط الصورة بإحدى طرق المحاكاة الثلاث ، ويعمِّق الصلة بين الشعر والرسام , فإذا كان الرسام وهو فنان يستعمل الريشة والألوان , فإن الشاعر يستعمل الألفاظ والمفردات ويصوغها في قالب فني مؤثر يترك أثره في المتلقي
أما الجاحظ فيرى أن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي , والبدوي والقروي , وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج , وكثرة الماء , و في صحة الطبع وجودة السبك , وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير.
وأخيراً ، اضع التعاريف القاموسية
الشُّعُورُ : الإدراك بلا دليل
الشُّعُورُ : الإحساس / ملاحظة : ( لي تحفظ على هذا المعنى ، ولكن لاسبيل لطرحه هنا )
ويقال عند الذمِّ : فلان لا يشعُر
و الشُّعُورُ ( عند علماء النفس ) : يطلق على العلم بما في النفس أو بما في البيئة ، وعلى ما يشتمل عليه العقل من إِدراكات ووجدانيات ونَزَعات
ولذا قالوا : إِن للشعور ثلاثةَ مظاهرَ هي ، الإدراك ، والوِجْدان ، والنُّزوع.
وأخيراً أستميحكم عذراً إن لم أُصب المعنى أو قد اعتراني الشَطَط.
مع احترام أنيق ، يليق ببرحية الفراتين الشاعرة عواطف عبداللطيف والشاعر الجميل جميل وكل أساتذتي الذين ساهموا في هذا النص / القضية ، بالقراءة أو المرور.